فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعندما نحقق في هذا الموقف وحده نجد أن الجزاء يكون أفضل من العمل. وما الذي يجعل المؤمن يصلي على ميت مؤمن؟ إنه إيمان هذا الذي مات وإيمان من مات ملك له، وعلى ذلك فملكية المؤمن لإيمانه تمتد بعد أن يموت لتشمل صلوات ودعاء من صلوا عليه.
وذلك يدخل في فضل الله: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وما دامت المسألة فضلًا من الله يشمل كل مؤمن فلابد أن الحق عنده من السعة ما يعطي الكل. وسبحانه واسع عليم. والحديث القدسي يقول: «يا عبادي، لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».
إذن فخزائن الله ملأى لا تنفد، وسعة الحق مطلقة.
ولهذا نحن أيضًا نجد أن الحب في الله يزداد دائمًا، فساعة نشاهد اثنين يتحابان في الله، فحبهما يزداد كل يوم؛ لأنه الحب في الله. أما إن كان الحب لأمر محدود فذلك الحب ينتهي ويترك كل منهما الاخر بانتهاء السبب لذلك الحب.
ولنأخذ قضية واضحة أمامنا: من كان يحب في الله فالحب لغير المحدود لا حدود له. ومن كان يحب في غير الله، فالحب هنا لمحدود ويرتبط طردا وعكسا بمدى الإثراء من هذا المحدود. ومن يحب لغرض من أغراض الدنيا يقيس ما يعطيه لمن يحب، فإن زاد ما يعطيه على ما يأخذه يحس بالخسارة. وعندما نتبادل الحب في الله فلا شيء ينقص عند الله أبدًا؛ لأنه سبحانه يعطي الاثنين معًا اللذين يتحابان فيه. وسبحانه العليم أزلًا، وصاحب القدرة الذي يعطي كل إنسان المناط الذي يستحقه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ...} الآية (54).
أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي وابن عساكر عن قتادة قال: أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس، فلما قبض الله نبيه ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل الجواثي من عبد القيس، وقال الذين ارتدوا: نصلي الصلاة ولا نزكي والله يغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم، وقيل لهم أنهم قد فقهوا أداء الزكاة فقال: والله لا أفرق بين شيء جمعه الله، والله لو منعوني عقالًا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه، فبعث الله تعالى عصائب مع أبي بكر، فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة، قال قتادة: فكنا نحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه...} إلى آخر الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: هو أبو بكر وأصحابه، لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وخيثمة الاترابلسي في فضائل الصحابة والبيهقي في الدلائل عن الحسن {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: هم الذين قاتلوا أهل الردة من العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر وأصحابه.
وأخرج ابن جرير عن شريح بن عبيد قال «لما أنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال عمر: أنا وقومي هم يا رسول الله؟ قال: بل هذا وقومه، يعني أبا موسى الأشعري».
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة في مسنده وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن عياض الأشعري قال: لما نزلت {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى الأشعري».
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في جمعه لحديث شعبة والبيهقي {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هم قومك يا أبا موسى، أهل اليمن».
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند حسن عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: «هؤلاء قوم من أهل اليمن من كندة، من السكون، ثم من التحبيب».
وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: هم قوم من أهل اليمن، ثم كندة من السكون.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس {فسوف يأتي الله بقوم} قال: هم أهل القادسية.
وأخرج البخاري في تاريخه عن القاسم بن مخيمرة قال: أتيت ابن عمر فرحَّب بي، ثم تلا {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم} ثم ضرب على منكبي وقال: احلف بالله أنهم لمنكم أهل اليمن ثلاثًا.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد {فسوف يأتي الله بقوم} قال: هم قوم سبأ.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال: هذا وعيد من عند الله، انه من ارتد منكم سيتبدل بهم خيرًا. وفي قوله: {أذلة} له قال: رحماء.
وأخرج ابن جرير عن قوله: {أذلة على المؤمنين} قال: أهل رقة على أهل دينهم {أعزة على الكافرين} قال: أهل غلظة على من خالفهم في دينهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: {أذلة على المؤمنين} قال: رحماء بينهم {أعزة على الكافرين} قال: أشداء عليهم. وفي قوله: {يجاهدون في سبيل الله} قال: يسارعون في الحرب.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد طوائف من العرب، فبعث الله أبا بكر في أنصار من أنصار الله، فقاتلهم حتى ردهم إلى الإسلام، فهذا تفسير هذه الآية.
قوله تعالى: {ولا يخافون لومة لائم}.
أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد والطبراني والبيهقي في الشعب عن أبي ذر قال «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بحب المساكين وأن أدنو منهم، وأن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أصل رحمي وإن جفاني، وأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز تحت العرش، وأن أقول الحق وإن كان مرًّا، ولا أخاف في الله لومة لائم، وأن لا أسأل الناس شيئًا».
وأخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول الحق إذا رآه وتابعه، فإنه لا يقرِّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو أن يذكر بعظيم».
وأخرج أحمد وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه يقال فلا يقول فيه مخافة الناس، فيقال: إياي كنت أحق أن تخاف».
وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن سهل بن سعد الساعدي قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أنا، وأبو ذر، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فأما السادس فاستقاله فأقاله».
وأخرج البخاري في تاريخه من طريق الزهري أن عمر بن الخطاب قال: إن وليت شيئًا من أمر الناس فلا تبال لومة لائم.
وأخرج ابن سعد عن أبي ذر قال: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ما ترك لي الحق صديقًا.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة عن عبادة بن الصامت قال «بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة». اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.
والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.
ونحوه قوله عزّ وجلّ: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ} {مَنْ} شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ} جوابها وهي مُبْتَدأة، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيرًا مَحْذُوفًا تقديره: «فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم»، ف «هُمْ» في «غَيْرهم» يعُود على «مَنْ» على مَعْناها.
وقرأ ابنُ عامرٍ، ونافع: {يَرْتَدِد} بداليْن.
قال الزَّمَخْشَري: «وهي في الإمَام- يعني رسم المُصْحَفِ- كذلك»، ولم يتبين ذلك، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِئ وافَق مُصْحَفَه، فإنَّها في مَصَاحِف «الشَّام» و«المدينة»: {يَرْتَدِدْ} بدالين، وفي البَاقِية: {يَرْتَدَّ}، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة «تمِيم»، والإظهَار لغة «الحِجاز»، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْمًا أو وَقْفًا، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو: رُدَّا، ورُدُّوا، ورُدِّي، ولم يَرُدَّا، ولم يَرُدُّوا، واردُدِ القوم، ثم حُمِل «لم يَرُدَّ»، و«رُدَّ» على ذلك، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها.
و{مِنْكُم} في محلِّ نصب على الحال من فاعل {يَرْتَدّ}، و{عَنْ دينهِ} متعلِّق بـ {يَرْتدَّ}.
قوله: {يحبُّهم} في محلِّ جر؛ لأنها صفةٌ لـ {قَوْم}، و{يُحِبُّونه} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه معطوف على ما قَبْلَهُ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضًا، فوصفهم بِصفتين: وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه.
والثاني: أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في {يُحِبُّهم}، قال: تقديره: «وهُمْ يُحِبُّونَهُ».
قال شهاب الدِّين: وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة «هُمْ» ليخرج بذلك من إشْكال، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالًا، وجبَ تجرُّدُه من «الواو» نحو: «قُمْتُ أضْحَكُ» ولا يجوز: «وأضْحَكُ» وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، كقولهم: «قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه».
وقوله: [المتقارب]
-......... ** نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا

أي: وأنَا أصُكُّ، وأنا أرهَنُهم، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة، فيصحُّ اقترانها بالواو، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ.
وقدمت محبَّة الله تعالى على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا؛ إذ مَحَبَّتُهُ تعالى لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ، وإثابته إيَّاهُم عليها.
قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين}.
هاتان أيضًا صِفَتَان لـ «قَوْم»، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية، فإن قوله تعالى: {يُحِبُّهم} صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد، وقوله: {أذلّة}- {أعزّة} صِفتَان صريحَتَان؛ لأنَّهُمَا مفردتان، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول: متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ، كقول امْرِئ القيس: [الطويل]