فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ** فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ

أي: ومِرْوَدُهُ فيه، وكذلك {بِهِ} أيضًا حالٌ من فاعل {خَرَجُوا}.
فالبَاءُ في قوله تعالى: {دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ}، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة، كما تَقُولُ: «دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ» أي: ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول.
وقوله: {وَهُمْ} مبتدأ، و{قَدْ خَرَجُوا} خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضًا عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهًا على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم، إذا دخلُوا على الرسول- عليه الصلاة والسلام- أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ: «رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ»، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين، وقال ابن عطية: «وقوله: {وَهُمْ} تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ، ثم يؤمنوا، ويخرجَ قومٌ، وهم كَفَرَة، فكان ينطبِقُ على الجميع، وهم قد دخلوا بالكفر، وقد خَرَجوا به، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ}، أي: هُمْ بأعيانهم»، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ، فبسطه ابن عطيَّة، قال الواحديُّ: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أكَّد الكلام بالضَّمير، تعيينًا إياهم بالكفر، وتمييزًا لهم عن غيَرِهِمْ، وقال بعضهم: معنى «هُم» التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنَى: أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر، وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون التقديرُ: وقد كانوا خرجُوا به»، ولا معنى لهذا التأويلِ، والواوُ في قوله تعالى: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها.
والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال؛ وعلى هذا: يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجِيزُ تعدُّدَ الحال لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف، ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكًا كَاتِبًا»؛ وعلى الأول: لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر. اهـ.

.تفسير الآية رقم (62):

قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كذبهم في دعوى الإيمان، أقام سبحانه الدليل على كفرهم فقال مخاطبًا لمن له الصبر التام، مفيدًا أنه أطلعه صلى الله عليه وسلم على ما يعلم منهم مما يكتمونه من ذلك تصديقًا لقوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} إطلاعًا هو كالرؤية، عاطفًا على ما تقديره: وقد أخبرنا غيرك من المؤمنين بما نعلم منهم من ذلك، وأما أنت فترى ما في قلوبهم بما آتيناك من الكشف: {وترى} أي لا تزال يتجدد لك ذلك {كثيرًا منهم} أي اليهود والكفار منافقهم ومصارحهم.
ولما كان التعبير بالعجلة لا يصح هنا، لأنها لا تكون إلا في شيء له وقتان: وقت لائق، ووقت غير لائق، والإثم لا يتأتى فيه ذلك، قال: {يسارعون} أي يفعلون في تهالكهم على ذلك فعل من يناظر خصمًا في السرعة فيما هو فيه محق وعالم بأنه في غاية الخير، وكان موضع لأن يعبر بالضمير فيقال: فيه- أي الكفر فعبر عنه تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف إفادة لأن كفرهم عن حيلة هي في غاية الرداءة بقوله: {في الإثم} أي كل ما يوجب إثمًا من الذنوب، وخص منه أعظمه فقال: {والعدوان} أي مجاوزة الحد في ذلك الذي أعظمه الشرك، ثم حقق الأمر وصوَّره بما يكون لوضوحه دليلًاعلى ما قبله من إقدامهم على الحرام الذي لا تمكن معه صحة القلب أصلًا، ولا يمكنهم إنكاره فقال: {وأكلهم السحت} أي الحرام الذي يستأصل البركة من أصلها فيمحقها، ومنه الرشوة، وكان هذا دليلًا على كفرهم لأنهم لون كانوا مؤمنين ما أصروا على شيء من ذلك، فكيف بجميعه! فكيف بالمسارعة فيه! ولذلك استحقوا غاية الذم بقوله: {لبئس ما كانوا} ولما كانوا يزعمون العلم، عبر عن فعلهم بالعمل فقال: {يعملون}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة.
قيل: الإثم الكذب، والعدوان الظلم.
وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم، وأما أكل السحت فهو أخذ الرشوة، وقد تقدم الاستقصاء في تفسير السحت. اهـ.
قال الفخر:
في الآية فوائد:
الفائدة الأولى: أنه تعالى قال: {وترى كَثِيرًا مّنْهُمْ} والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فيترك.
الفائدة الثانية: أن لفظ المسارعة إنما يستعمل في أكثر الأمر في الخير.
قال تعالى: {يسارعون في الخيرات} [آل عمران: 114] وقال تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ في الخيرات} [المؤمنون: 56] فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة، إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة، وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه.
الفائدة الثالثة: لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات، فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دلّ هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وترى كَثِيرًا مّنْهُمْ} أي من أولئك اليهود كما روي عن ابن زيد والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: {يسارعون فِيهِمْ الإثم والعدوان} في موضع الحال من {كَثِيرًا} الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان لترى والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار {فِى} على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقًا، وقيل: الكذب بقولهم: {مِنَ} [المائدة: 61] لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: {عَن قَوْلِهِمُ الإثم} [المائدة: 63]، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان: الظلم أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد {وَأَكْلِهِمُ السحت} أي الحرام مطلقًا، وقال الحسن: الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئًا يعملونه هذه الأمور فما نكرة موصوفة وقعت تمييزًا لضمير الفاعل المستتر في بئس والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل {مَا} موصولة فاعل بئس والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وترى كثيرًا منهم} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وترى يا محمد كثيرًا من اليهود وكلمة «من» يحتمل أن تكون للتبعيض.
ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى: {وترى كثيرًا منهم يسارعون}.
المسارعة في الشيء: المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير.
ومنه قوله تعالى: {يسارعون في الخيرات} وضدها العجلة، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون {في الإثم والعدوان وأكلهم السحت} الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها.
والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان وما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه {لبئس ما كانوا يعملون} يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإِثم والعدوان وأكلهم السحت. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}.
تَملكتْهُم الأطماعُ فاستهوتهم في متاهات العناء، وذلك نعت كل طالع في غير مطمع؛ ذُلٌّ حاضر، وصَغَارٌ مستولٍ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)}.
والمسارعة في الإثم تعني أنهم من بداية الأمر في الإثم، ويسارعون فيه، أي أنهم كانوا على أولية الإثم ويجرون إلى آخرية الإثم، فَضَلاَلُهم واضح من البداية، وكأن خلقهم الكفر يفضحهم، برغم محاولتهم كتمان ذلك. ويجدون أنفسهم مسارعين إلى فعل الإثم، أي أن عملهم ينزع إلى الكفر، ويجعلهم الحق يغفلون عن الكتمان، فتبدو منهم أشياء هي أكثر فضيحة من القول، ذلك أن الإثم مراحل: مرحلة قول، ومرحلة فعل. والفعل أكثر فضحًا من القول.
{وترى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} ويقول الحق: {كَثِيرًا مِّنْهُمْ} صيانة لاحتمال أن يوجد الإيمان في قلب القليل منهم، وذلك لتبرئة أي إنسان يفكر في الإيمان. وهم أيضًا يسارعون في العدوان، فإذا كان الإثم هو الجُّرم على أي لون كان، فالعدوان هو إثم يأخذ به إنسان حقًا لغيره، مثال ذلك الإنسان الذي يحقد، إثمه لنفسه ولذلك يعاني من تضارب الملكات حتى يبدو وكأنه يأكل بعضه بعضًا.
إن الحقد- كما نعلم- جريمة نفسية لم تتعد الحد. ويقال عن الحقد: إنه الجريمة التي تسبقها عقوبتها، عكس أي جريمة أخرى، فأي جريمة تتأخر عقوبتها عنها إلا الحقد والحسد، فتنال عقوبة الحقد صاحبها من قبل أن يحقد؛ لأن الحاقد لا يحقد إلا لأن قلبه ومشاعره تتمزق عندما يرى المحقود عليه في خير. ولذلك يقال في الأثر: «حسبك من الحاسد أنه يغْتّم وقت سرورك».
إذن من يرتكب إثمًا في نفسه لا يتعدى أثر إثمه إلى غيره، أما الذي يرتكب العدوان فهو ينقل حق إنسان إلى غيره. وهو قسمان؛ هناك من يعتدي ليعطي حقا لغير ذي حق. وهناك من يعتدي بالسكوت على الظالم، فالظالم تتملكه شهوة الظلم، لكن من يرى الظالم ويسكت ولا ينهاه فهذا عدوان أيضًا؛ لأن الظالم عنده وفي نفسه ما يدفعه إلى أن يظلم، أما الشاهد الذي يصمت فليس عنده في نفسه ما يدفعه إلى أن يُسكته. فمن- إذن- الأكثر شرًا؟ إنه الذي يصمت عن تنبيه الظالم إلى أنه يظلم.
{وترى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان} نلحظ أن كلمة «سارع» مثلها مثل كلمة «نافس» تدل على أن هناك أناسًا في سباق؛ كأنهم يتسابقون على الإثم والعدوان، كأن الأثم والعدوان غاية منصوبة في أذهانهم، ومتفقة مع قلوبهم.
{وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والسحت هو كل مال مصدره حرام، سواء أكان رشوة أمْ ربا أم سرقة أم اختلاسًا أم خطفًا أم اغتصابًا، كل تلك الألوان وما ماثلها من السحت إنها أخذ لحق الغير. وأخذ حق الغير له صور متعددة، فإن أخذه أحد خفية فتلك هي السرقة. وإن سارع إنسان لخطف شيء من بضاعة إنسان آخر فهذا هو الخطف. وإذا لحق به صاحب البضاعة وتجاذبا وتشادَّا فهذه المجاذبة تخرج بالخطف إلى دائرة الغضب. وإن كان الإنسان أمينًا على شيء وأخذه فهذا هو الاختلاس، وكل ذلك أكل مال بالسحت. وبئس هذا اللون من العمل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وترى}: يجوز أن تكون بصريَّةً، فيكون {يُسَارِعُونَ} حالًا، وأن تكون العلميَّةَ أو الظنيَّة، فينتصب {يُسَارعُونَ} مفعولًا ثانيًا، و{مِنْهُمْ} في محلِّ نصب؛ على أنه صفةٌ لـ {كَثِيرًا} فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنًا منهم، أو استقرَّ منهم، وقرأ أبو حيوة: {العِدْوان} بالكسر، و{أكْلِهِمُ} هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله، و{السُّحْتَ} مفعولُه، وقد تقدَّمَ ما فيه. اهـ.