فصل: تفسير الآية رقم (63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (63):

قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئًا واحدًا في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجه يعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم- أنكر- على من يودعونهم أسرارهم ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم- عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكونهم جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال: {لولا} أي هلا ولم لا {ينهاهم} أي يجدد لهم النهي {الربانيون} أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب {والأحبار} أي العلماء {عن قولهم الإثم} أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له {وأكلهم السحت} وذلك لأن قولهم للمؤمنين {آمنا} وقولهم لهم {إنا معكم إنما نحن مستهزءون} [البقرة: 14] لا يخلو عن كذب، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية، ولا يبقى لمن عاداه باقية.
ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق.
وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلًا عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ، لأن الشهوة تدعوه إليها، وذنب التارك للنهي راسخًا لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي، فكان أشد حالًا؛ قال: {لبئس ما} ولما كان ذلك في جبلاتهم، عبر بالكون فقال: {كانوا يصنعون} أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

معنى {لَوْلاَ} هاهنا التحضيض والتوبيخ، وهو بمعنى هلا، والكلام في تفسير الربا نيين والأحبار قد تقدم.
قال الحسن: الربا نيون علماء أهل الإنجيل، والأحبار علماء أهل التوراة.
وقال غيره: كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرًا راسخًا متمكنًا، فجعل جرم العاملين ذنبًا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبًا راسخًا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة، وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن، وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، والله أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} يعني العلماء وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود.
وقرأ أبو واقد الليثي، وابن الجراح العقيلي: الربيون كقوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146].
{عَن قَوْلِهِمُ الإثم} وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ.
الحسن بن أحمد بن محمد، وشعيب بن محمد بن شعيب عن إبراهيم بن عبد اللّه بن محمد بن عدي، الأحمسي، البخاري عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن جرير عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يجاور قومًا فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلاّ وأوشك اللّه أن يعمهم منه بعقاب».
أبو عبد اللّه محمد، أحمد بن محمد بن يعقوب، عبد اللّه بن أسامة، أسيل بن زيد الجمال، يحيى بن سلمى بن مهنا عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان فيها نصيب، فأخذ رجل منهم فأسًا فجعل يضرب في موضعه فقال أصحابه: أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا؟ فقال: هو مكاني فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرقوا وغرق».
وقال مالك بن دينار: أوصى اللّه إلى الملائكة أن عذّبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها: يا رب إن فيهم عبدك العابد. فقال: أسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير غضبًا لمحارمي وأوحى اللّه إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم. فقال: يا ربّ فهؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون} يعني: هلاّ ينهاهم الربانيون يعني: علماؤهم وعبادهم.
وإنما شكا من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف، ويجالسونهم، ويؤاكلونهم، وكل عالم لم يأمر بالمعروف، ويجالس أهل الظلم، والمعصية، فإنه يدخل في هذه الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار} قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، و{لَوْلاَ} الداخلة على المضارع كما قرره ابن الحاجب وغيره للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.
{عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} مع علمهم بقبحهما واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي «البحر» إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي.
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقًا، فإن كان عن قصد سمي عملًا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعًا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق: صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع كما قاله الراغب ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجهه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد إن جرم الديوث أعظم من الزانيين.
واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثمًا منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلًا أو زنًا أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثمًا منه فتأمل، وفي الآية مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقى الناس كان قد سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبًا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال: أين هذه الآية يعني قوله: {غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا} فأروه إياها فمحاها، فلم يمض أسبوع إلاّ وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: قال الورتجبي: في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه، وبثواب الله لمن أطاعه؛ لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا. اهـ وفي بعض الأثر: «إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت، فعليه لعنة الله». والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال، كقضية معروف الكرخي وغيره ونهي الأحبار يكون بالمقال، وقد تقدم هذا. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْإِثْمَ} قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ «هَلَّا» وَهِيَ تَدْخُلُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: «لِمَ لَا تَفْعَلُ» وَهِيَ هَاهُنَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، يَقُولُ: هَلَّا يَنْهَاهُمْ وَلِمَ لَا يَنْهَاهُمْ وَإِذَا كَانَتْ لِلْمَاضِي فَهُوَ لِلتَّوْبِيخِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا}.
وَقِيلَ فِي الرَّبَّانِيِّ: إنَّهُ الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ، فَنُسِبَ إلَى الرَّبِّ، كَقَوْلِهِمْ: «رُوحَانِيٌّ» فِي النِّسْبَةِ إلَى الرُّوحِ، «وَبَحْرَانِيٌّ» فِي النِّسْبَةِ إلَى الْبَحْرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: «الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ، وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ».
وَقَالَ غَيْرُهُ: «هُوَ كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِذِكْرِهِمْ».
وَذَكَرَ لَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ثَعْلَبٍ قَالَ: «الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ الْعَامِلُ».
وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَالِاجْتِهَادِ فِي إزَالَتِهِ، لِذَمِّهِ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ. اهـ.