فصل: قال ابن عبد البر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله تعالى: {بيدي} إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال: إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت.
مسألة:
وأيضا فلو كان معنى قوله تعالى: {بيدي} نعمتي لكان لا فضيلة لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله تعالى قد ابتدأ إبليس على قولهم كما ابتدأ آدم صلى الله عليه وسلم وليس تخلو النعمتان أن يكونا هما بدن آدم صلى الله عليه وسلم أو يكونا عرضين خلقا في بدن آدم عليه الصلاة والسلام فلو (1/ 135) كان عنى بدن آدم عليه السلام فلأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كانت الأبدان عندهم جنسا واحدا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ما حصل في جسد آدم صلى الله عليه وسلم وكذلك إن عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم صلى الله عليه وسلم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس وهذا يوجب أنه لا فضيلة لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس في ذلك والله تعالى إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم صلى الله عليه وسلم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز وجل لما قال: {خلقت بيدي} لم يعن نعمتي (1/ 136).
مسألة:
ويقال لهم: لم أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله: {بيدي} يدين ليستا نعمتين؟
فإن قالوا: لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا: اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة.
قيل لهم: إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله تعالى فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على الله- تعالى عن ذلك- وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقضين.
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي؟ (1/ 137).
وكذلك يقال لهم: لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد.
مسألة:
فإن قالوا إذا أثبتم لله عز وجل يدين لقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} فلم لا أثبتم له أيدي لقوله تعالى: {مما عملت أيدينا} من الآية (71/ 36)؟
قيل لهم: قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك وجب أن يكون الله تعالى ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل عنده دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا بحجة.
مسألة:
فإن قال قائل: إذا ذكر الله عز وجل الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدا واحدة؟
قيل له: ذكر تعالى أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقول من قال يدا واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر. (1/ 139).
مسألة:
فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى: {مما عملت أيدينا} من الآية (71/ 36) وقوله تعالى: {لما خلقت بيدي} من الآية (75/ 38) على المجاز؟
قيل له: حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة كذلك قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} من الآية (75/ 38) (1/ 140) على ظاهره أو حقيقته من إثبات اليدين ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة.
ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة بل واجب أن يكون قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} من الآية (75/ 38) إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم: فعلت بيدي وهو يعني النعمتين (1/ 141). اهـ.

.قال ابن عبد البر:

أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله روى حرملة بن يحيى قال سمعت عبد الله بن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وأشار بيده إلى عنقه ومثل قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فأشار إلى عينيه أو أذنه أو شيئا من بدنه قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه ثم قال مالك أما سمعت قول البراء حين حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يضحى بأربع من الضحايا» وأشار البراء بيده كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده قال البراء ويدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره البراء أن يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وهو مخلوق فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء. اهـ.

.قال الفخر:

{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} أي يرزق ويخلق كيف يشاء، إن شاء قتر، وإن شاء وسع.
وقال: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ في الأرض ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} [الشورى: 27] وقال: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] وقال: {قل الّلهم مالك الملك} إلى قوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26].
واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة، وذلك لأنهم قالوا: يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع، ويجب عليه أن لا يعاقبه، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه، وليس لأحد عليه استحقاق، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعًا} [المائدة: 17] فقوله سبحانه: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم. اهـ.

.قال الألوسي:

{يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من {كيف} وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضيق عليهم، و{كَيْفَ} ظرف ليشاء والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير {يُنفِقُ} أي ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدًا، وقيل: إن جملة {يُنفِقُ} في موضع الحال من الضمير المجرور في {يَدَاهُ} واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، وردّ بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: {هذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] إذ قيل: إن شيخًا حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزءًا أو كجزء أو عاملًا، وههنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لاضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أن ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرًا ثانيًا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْرًا}
المراد بالكثير علماء اليهود، يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلوًا في الإنكار، كما يقال: ما زادتك موعظتي إلا شرًا.
وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مّنْهُم} وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقًا {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يقدم على المنتهي لاقتضاء المقام كما قال شيخ الإسلام الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل ليزيدنّ والاسناد مجازي، و{كَثِيرًا} مفعوله الأول، و{مِنْهُمْ} صفته.
وقوله تعالى: {طغيانا وَكُفْرًا} مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانًا على طغيانهم وكفرًا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرض مرضًا، ويحتمل أن يراد بما أنزل النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي أنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظًا وحنقًا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانًا وإلى كفرهم كفرًا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملائمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره. اهـ.

.قال الفخر:

قال أصحابنا: دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفرًا وضلالًا، فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات، فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد، ونظيره قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125].