فصل: من فوائد الخازن في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ أبو السمال: بسكون العين كما قالوا: في عصر عصرون.
وقال الشاعر:
لو عصر منه البان والمسك انعصر

ويحسن هذه القراءة أنها كسرة بين ضمتين، فحسن التخفيف.
{بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} معتقد أهل الحق أن الله تعالى ليس بجسم ولا جارحة له، ولا يشبه بشيء من خلقه، ولا يكيف، ولا يتحيز، ولا تحله الحوادث، وكل هذا مقرر في علم أصول الدين.
والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ، وأضاف ذلك إلى اليدين جاريًا على طريقة العرب في قولهم: فلان ينفق بكلتا يديه.
ومنه قوله:
يداك يدا مجد فكف مفيدة ** وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق

ويؤيد أنّ اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق.
ومن نظر في كلام العرب عرف يقينًا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل، وقد استعملت العرب ذلك حيث لا يكون قال الشاعر:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ** شكرت نداه تلاعه ووهاده

وقال لبيد:
وغداة ريح قد وزعت وقرة ** قد أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال: بسط اليأس كفه في صدري، واليأس معنى لا عين وقد جعل له كفًا.
قال الزمخشري: ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به ثم قال: فإن قلت: لم ثنيت اليد في بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة؟ قلت: ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بما له من نفسه، وأن يعطيه بيديه جميعًا، فبنى المجاز على ذلك انتهى.
وكلامه في غاية الحسن.
وقيل عن ابن عباس: يداه نعمتاه، فقيل: هما مجازان عن نعمة الدين ونعمة الدّنيا، أو نعمة سلامة الأعضاء والحواس ونعمة الرّزق والكفاية، أو الظاهرة والباطنة، أو نعمة المطر ونعمة النبات، وما ورد مما يوهم التجسيم كهذا.
وقوله: {لما خلقت بيدي} و{مما عملت أيدينا} و{يد الله فوق أيديهم} و{لتصنع على عيني} و{تجري بأعيننا} و{هالك إلا وجهه} ونحوها.
فجمهور الأمة أنها تفسر على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين الكلام.
وقال قوم منهم القاضي أبو بكر بن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات، ثابتة لله تعالى من غير تشبيه ولا تجديد.
وقال قوم منهم الشعبي، وابن المسيب، والثوري: نؤمن بها ونقر كما نصت، ولا نعين تفسيرها، ولا يسبق النظر فيها.
وهذان القولان حديث من لم يمعن النظر في لسان العرب، وهذه المسألة حججها في علم أصول الدين.
وقرأ عبد الله: بسيطتان يقال: يد بسيطة مطلقة بالمعروف.
في مصحف عبد الله: بسطان، يقال: يده بسط بالمعروف وهو على فعل كما تقول: ناقة صرح، ومشية سجح، ينفق كيف يشاء هذا تأكيد للوصف بالسخاء، وأنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته، ولا موضع لقوله تنفق من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة، وقال الحوفي: يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في مبسوطتان انتهى.
ويحتاج في هذين الإعرابين إلى أن يكون الضمير العائد على المبتدأ، أو على ذي الحال محذوفًا التقدير: ينفق بهما.
قال الحوفي: كيف سؤال عن حال، وهي نصب بيشاء انتهى.
ولا يعقل هنا كونها سؤالًا عن حال، بل هي في معنى الشرط كما تقول: كيف تكون أكون، ومفعول يشاء محذوف، وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم، كما يدل في قولك: أقوم إن قام زيد على جواب الشرط والتقدير: ينفق كيف يشاء أن ينفق ينفق، كما تقول: كيف تشاء أن أضربك أضربك، ولا يجوز أن يعمل كيف ينفق لأن اسم بالشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارًا، فقد يعمل في بعض أسماء الشرط.
ونظير ذلك قوله: {فيبسطه في السماء كيف يشاء} {وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا} علق بكثير، لأن منهم مَن آمن ومن لا يزداد إلا طغيانًا، وهذا إعلام للرّسول بفرط عتوهم إذ كانوا ينبغي لهم أن يبادروا بالإيمان بسبب ما أخبرهم به الله تعالى على لسان رسوله من الأسرار التي يكتمونها ولا يعرفها غيرهم، لكنْ رتبوا على ذلك غير مقتضاه، وزادهم ذلك طغيانًا وكفروا، وذلك لفرط عنادهم وحسدهم.
وقال الزجاج: كلما نزل عليك شيء كفروا به.
وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدّماء.
وقيل: المراد بالكثير علماء اليهود.
وقيل: إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر.
{وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله: {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} ولشمول قوله: {يا أهل الكتاب} للفريقين وهذا قول: الحسن، ومجاهد.
وقيل: هو عائد على اليهود، إذ هم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية.
والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين، فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك، ولا يقدرون على ضررك، ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك، لأن الطائفتين لا توادّ بينهم فيجتمعان على حربك.
وفي ذلك إخبار بالمغيب، وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيشا يهود ونصارى مذ كان الإسلام إلى هذا الوقت.
وأشار إلى هذا المعنى الزمخشري بقوله: فكلهم أبدًا مختلف وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم، ولا تعاضد انتهى.
والعداوة أخص من البغضاء، لأن كل عدوّ مبغض، وقد يبغض من ليس بعدوّ.
وقال ابن عطية: وكأنّ العداوة شيء يشهد يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس انتهى كلامه.
{كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله} قال قوم: هو على حقيقته وليس استعارة، وهو أن العرب كانت تتواعد للقتال، وعلامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، فيتبادرون والجيش يسري ليلًا فيوقد من مرّ بهم ليلًا النار فيكون إنذارًا، وهذه عادة لنا مع الروم على جزيرة الأندلس، يكون قريبًا من ديارهم رئية للمسلمين مستخف في جبل في غار، فإذا خرج الكفار لحرب المسلمين أوقد نار، فإذا رآها رئية آخر قد أعدّ للمسلمين في قريب من ذلك الجبل أوقد نارًا، وهكذا إلى أن يصل الخبر للمسلمين في أقرب زمان، ويعرف ذلك من أي جهة نهر من الكفار، فيعدّ المسلمون للقائهم.
وقيل: إذا تراءى الجمعان وتنازل العسكران أوقدوا بالليل نارًا مخافة البيات، فهذا أصل نار الحرب.
وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجدّ في حربهم أوقدوا نارًا وتحالفوا، فعلى كون النار حقيقة يكون معنى إطفائها أنه ألقى الله الرعب في قلوبهم فخافوا أن يغشوا في منازلهم فيضعون، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها، وأضاف تعالى الإطفاء إليه إضافة المسبب إلى سببه الأصلي.
وقال الجمهور: هو استعارة، وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال، وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك، وتفرّق آرائهم، وحل عزائمهم، وتفرّق كلمتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم.
فهم لا يريدون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا، ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس.
وقيل: خالفوا اليهود فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم بطريق الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين.
وقال قوم: هذا مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة، والتهاب شواظ قلوبهم، وغليان صدورهم.
ومنه الآن حمى الوطيس للجد في الحرب، وفلان مسعر حرب يهيجها ببسالته، وضرب الإطفاء مثلًا لإرغام أنوفهم وخذلانهم في كل موطن.
قال مجاهد: هي تبشير للرسول بأنهم كلما حاربوه نصر عليهم، وإشارة إلى حاضريه من اليهود.
وقال السدّي والربيع وغيرهما: هي إخبار عن أسلافهم منذ عصور هدّ الله ملكهم، فلا ترفع لهم راية إلى يوم القيامة، ولا يقاتلون جميعًا إلا في قرى محصنة.
وقال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذلّ الناس.
{ويسعون في الأرض فسادًا} يحتمل أن يريد بالسعي نقل الإقدام أي: لا يكتفون في إظهار الفساد إلا بنقل أقدامهم بعضهم لبعض، فيكون أبلغ في الاجتهاد، والظاهر أنه يراد به العمل.
والفعل أي: يجتهدون، في كيد أهل الإسلام ومحوذ ذكر الرسول من كتبهم.
والأرض يجوز أن يراد بها الجنس، أو أرض الحجاز، فتكون أل فيه للعهد.
قال ابن عباس ومقاتل: فسادهم بالمعاصي.
وقال الزجاج: بدفع الإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم.
وقيل: بسفك الدماء واستحلال المحارم.
وقيل: بالكفر.
وقيل: بالظلم، وكل هذه الأقوال متقاربة.
{والله لا يحب المفسدين} ظاهر المفسدين العموم، فيندرج هؤلاء فيهم.
وقيل: أل للعهد، وهم هؤلاء.
وانتفاء المحبة كناية عن كونه لا يعود عليهم بفضله وإحسانه، فهؤلاء يثيبهم.
وإذا لم يثبهم فهو معاقبهم، إذ لا واسطة بين العقاب والثواب. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي.
قال ابن عباس: إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالًا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة.
فعند ذلك قال فنحاص: يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء.
فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخبارًا عنهم: {وقالت اليهود يد الله مغلولة}.
يعني نعمته مقبوضة عنا.