فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذلك ذمّ على طريقة العَرب.
وجملة {غُلَّت أيديهم} معترضة بين جملة {وقالت اليهود} وبين جملة {بل يداه مبسوطتان}.
وهي إنشاء سبّ لهم.
وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم «عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله، وأسلم سَلَّمها الله، وغِفَار غَفر الله لها».
وجملة {ولعنوا بما قالوا} يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم، ويجوز أن تكون إخبارًا بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا، نظير ما في قوله تعالى: {وإن يَدْعون إلاّ شيطانًا مريدًا لعنه الله} في سورة النّساء (117، 118).
وقوله: {بل يداه مبسوطتان} نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى.
وبسط اليدين تمثيل للعطاء، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين.
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجُود، وإلاّ فاليَدُ في حال الاستعارة للجود أو للبُخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير، كقوله تعالى: {ثُم ارجع البصر كرّتين} [الملك: 4]، وقولهم: «لبّيك وسعديك».
وقال الشّاعر (أنشده في الكشاف ولم يعْزه هو ولا شارحوه):
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ اليدَيْن بوابلٍ ** شكرَتْ نَدَاه تلاعُه ووهَاده

وجملة {ينفق كيف يشاء} بيان لاستعارة {يداه مبسوطتان}.
و{كيف} اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال.
وفي قوله: {كيف يشاء} زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة، مثل العقاب على كفران النعمة، قال تعالى: {ولو بَسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض} [الشورى: 27].
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْرًا}.
عطف على جملة {وقالت اليهود يد الله مغلولة}.
وقع معترضًا بين الردّ عليهم بجملة {بل يداه مبسوطتان} وبين جملة {وألقيْنا بينهم العداوة والبغضاء}، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة، أي أعماهم الحسد فزادهم طغيانًا وكفرًا، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم، وتسلية له بأنّ فَرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة}.
عطف على جملة {ولعنوا بما قالوا} عطفَ الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه.
وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقَى البغضاء بين بعضهم وبعض، فهو جزاء من جنس العمل، وهو تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأنَ الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن.
وتقدّم القول في نظيره آنفًا.
{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا والله لاَ يُحِبُّ المفسدين}.
تركيب {أوقدوا نارًا للحرب أطفاها الله} تمثيل، شُبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحَزَامةِ في أمرها، بحال من يُوقد النّار لحاجة بها فتنطفىء، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحَمْي والنّار ونحوها للحرب، ومنه حَمِيَ الوَطيس، وفلان مِسْعَرُ حرب، ومِحَشّ حرب، فقوله: {أوقدوا نارًا للحرب} كذلك، ولا نارَ في الحقيقة، إذ لم يُؤْثر عن العرب أنّ لهم نارًا تختصّ بالحرب تُعَدّ في نِيرَان العرب الّتي يُوقِدُونها لأغراض.
وقد وهم من ظنّها حقيقة، ونبَّه المحقّقون على وهمه.
وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامُهم وسرعةُ ارتدادهم عنها، وإحجامُهم عن مصابحة أعدائهم، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها.
ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالحٌ لأن يعتبر فيه جَمْعُه وتفريقه، بأن يُجعل تمثيلًا واحدًا لِحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة.
والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ، ولو حاربوا أو حُوربوا انهزموا، فيكون معنى الآية على هذا كقوله: {ضُرِبت عليهم الذلّة أينَما ثُقِفوا} [آل عمران: 112].
وأمّا ما يروى أنّ مَعَدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم «خَزَازَى»، وسيادتُهم لِتغلب وقائدُهم كُليب، أمر كليب أن يوقدوا نارًا على جبل خَزَازَى ليهتدي بها الجيش لكثرته، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على «خَزَازَى»، فلمّا دهمتهم مَذحج أوقدوا النّار فتجمّعت مَعدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مَذحج.
وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله:
وَنَحْنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى ** رَفَدْنَا فَوْقَ رفْد الرافِدِينَا

فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذٍ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب.
وحيث لا تعْرف نار للحرب تعيّن الحَمْل على التمثيل، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلامُ بحقيقة ولا كناية.
وقوله: {ويسعون في الأرض فسادًا} القولُ فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفًا عند قوله تعالى: {إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا} [المائدة: 33]. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...} الآية (64).
ونعرف أن اليد جارحة حرة الحركة تنفعل يمينًا وتنفعل شِمالًا وتنفعل إلى أسفل وإلى أعلى، ولها من الأصابع ما جعل الله لكل أصبع مع زميله مهمة. وليلاحظ كل منا أصابعه في أثناء أي عمل، سيجدها تتباعد وتتقارب بحركة إرادية منسجمة لتؤدي المهمة. وخلقة الأصابع بالمفاصل والعُقل وحجم كل عقلة يختلف عن الأخرى؛ لتؤدي المهمة بانسجام. وساعة تعوّق هذه الجارحة عن أداء مهمتها فأنت بذلك تكون قد غللتها، أي ربطتها عن التصرف المطلوب منها.
ومعنى قوله: {يد الله مغلولة} أي أن يد الله- والعياذ بالله- مشلولة الحركة. وقد قالوا ذلك قبل ظهور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل زحف الإسلام عليهم لينقض باطلهم. وحدث أن تفرغوا لصناعة آلات الحرب وبناء الحصون والزراعة، وانشغلوا عن الزراعة فخابت محاصيلهم وجاء وقت الحصاد فلم يجدوا، فقال «فنحاص» وهو واحد من اليهود: لماذا قبض الله يده عنا؟ إن يد الله مغلولة. ونلحظ أن الذي قال ذلك هو شخص واحد، ولكن الحق يقول هنا: {وقالت اليهود يد الله مغلولة}. ومعنى ذلك أن «فنحاص» عندما قال ذلك سمعوه وسرّهم ما قال، ووافقوه عليها.
أو أنهم حينما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة وقد آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت تمر على المسلمين الليالي دون طعام فيراهم اليهود فيتندرون على تلك الحال ويقولون: إن يد الله مغلولة عن محمد وآله.
أو أنهم قالوا: إن يد الله مغلولة في الآخرة عن عقابنا؛ لأنه سيعقابنا أيامًا معدودة. والذي يبيح لنفسه أن يجعل الله منفعلًا لأحداث خلقه إنما يكفر بالله؛ لأنه يُنزلُ الله من مكانته. فإذا كانت يد الله مغلولة، فهذا الرباط والغَلُّ والمنع يكون من خَلْق الله. وكيف يقدر خلقٌ من خلق الله أن يربط يد الله؟. لقد اجترأوا على مقام الأولوهية وهذا من سوء الأدب، تمامًا كما قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].
وحينما قالوا: {يد الله مغلولة} وردّ الحق عليهم: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقال قبلها: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فهل يدعو الحق عليهم؟ طبعًا لا؛ لأنه هو المصدر الذي يتجه إليه الخلق بالدعاء وهو القادر على كل الخلق. ولكن الحق حين روى ما قالوه إنما ينبه الذهن الإيماني الذي يستقبل كلامه أنه ساعة يجد وصفًا لا يناسب الله فعليه أن يدفع هذا الكلام حتى قبل أن يرى الرد عليهم.
{وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} وهذا يعلمنا أننا إذا سمعنا وصفًا لا يليق فلابد أن ندحضه؛ لأن الحق لا يدعو على عبيده؛ لأن الدعاء هو أن يرفع عاجز طلبه إلى قادر لينفذ المطلوب له.
إذن فإن قالها الحق فهي إما أن تكون خبرًا، وإما تعليمًا لنا، فإذا كانت خبرًا نلحظ أن الله كتب عليهم البخل ساعة قالوا هذا ومنذ لحظة هذا القول، وإن كان القصد هو تعليمنا، فنحن نتعلم الأدب الإيماني، ونرد أي وصف لا يليق بجلال الله.
وهذه المسألة لها نظير، فعندما علم الحق سبحانه وتعالى تشوّق رسوله والمؤمنين أن يذهبوا إلى المسجد الحرام؛ قال لرسوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله} [الفتح: 27].
وهل هذا إخبار من الله، أو هو تعليم لنا؟. إنه تعليم لنا أن نفعل ذلك عندما نشتاق إلى فعل. وكذلك هنا: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} لذلك يعلمنا سبحانه أن نقول: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} مثلما علمنا أن نقول: {إِن شَاءَ الله} حتى ننسب كل قدر لله. وقد حاول الفلاسفة أن ينسونا تقدير المشيئة، فقالوا: إن الله خلق النواميس والأكوان وجعل لها قوانين تعمل في الكون. وهل زاول الحق سلطانه ساعة خلق النواميس ثم ترك الأمور لذاتها؟ لا؛ لذلك جاء سبحانه بمعجزات تخرق النواميس ليدلنا على أن النواميس لم تأخذ هي الكلمة للتصرف بل إن يد الله ما زالت في كونه، فالنار- على سبيل المثال- التي تحرق يأتيها الأمر: {كُونِي بَرْدًا وسلاما} [الأنبياء: 69].
والماء الذي يُغرق يأتيه الأمر: {فَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63].
وقال: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقًا فِي البحر يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تخشى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 77-78].
والعصا التي خلقت من غصن شجر جاف، تتحول إلى أفعى، أي نقلها كلها إلى جنس آخر، من نباتية إلى حيوانية. هذا هو خرق النواميس.
ويقول الحق عن هؤلاء الذين ادعوا أن يد الله مغلولة: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} أي أنهم طردوا من رحمة الله، لأنهم هم الذين بشروا على أنفسهم وقالوا إن يد الله مغلولة، وسبحانه قادر أن يمنع عطاءه عنهم.
ويتابع سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، وهو يعطي من يريد، وكلمة «اليد» في اللغة تُطلق على الجارحة وتطلق على النعمة، فيقول الرجل: إن لفلان علي يدًا لا أنساها؛ أي أنه قدم جميلًا لا يُنسى. واستعملت اليد بهذا المعنى لأن جميع التناولات تكون باليد. وتُطلق اليد ويراد بها الملكية فيقول سبحانه: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237].
أي الذي يملك أن يُنكح المرأة، هو الذي يعفو. وفي القتال نجد القول الحكيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14].
أو تطلق اليد على من له ولاية في عمل من الأعمال، لذلك نجد الحق قد قال: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75].
وآدم هو الخلق الأول وكلنا من بعده مخلوقون بالتناسل من الزوجية.
وقد كرّم الله الإنسان بأنه خلقه بيديه، وخلق كل شيء ب «كن». إذن: كلمة «اليد» تطلق على معانٍ متعددة. والرسول يقول: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم».