فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة، بيّن في هذه الآية أيضًا أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها، وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها، ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيها: إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال: أقام الصلاة إذا قام بحقوقها، ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها: أنه أقامها.
وثالثها: أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها، وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن.
وأما قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} ففيه قولان: الأول: أنه القرآن، والثاني: أنه كتب سائر الأنبياء: مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق، وكتاب دانيال، فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام.
وأما قوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة، وبلغوا إلى حيث قالوا: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} فالله تعالى بيّن أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة، وفي قوله: {لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} وجوه: الأول: أن المراد منه المبالغة في شرح السعة والخصب، لا أن هناك فوقا وتحتا، والمعنى لأكلوا أكلًا متصلًا كثيرًا، وهو كما تقول: فلان في الخير من فرقه إلى قدمه، تريد تكاثف الخير وكثرته عنده.
الثاني: أن الأكل من فوق نزول القطر، ومن تحت الأرجل حصول النبات، كما قال تعالى في سورة الأعراف {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} [الأعراف: 96] الثالث: الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت الأرجل الزروع المغلة، والرابع: المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم، والخامس: يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} يعني: أقرّوا بما فيهما، وبيّنوا ما كتموا، {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} يعني: بما أنزل إليهم من ربهم، يعني: عملوا بما أنزل إليهم من ربهم في كتابهم؛ ويقال: القرآن.
{لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ}، يعني: يرزقهم الله تعالى المطر من فوقهم، في الوقت الذي ينفعهم، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يعني: النبات من الأرض، وقال الزجاج: هذا على وجه التوسعة.
يقال: فلان خيره من فوقه إلى قدمه، يعني: لو أنهم فعلوا ما أمروا لأعطاهم الله الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يعني: صاروا في الخير في الدنيا والآخرة.
وروى أبو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ولو أنهم أقاموا التوراة} أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: {والإنجيل} يقتضي دخول النصارى في لفظ {أهل الكتاب} في هذه الآية، وقوله تعالى: {وما أنزل إليهم من ربهم} معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى {من فوقهم ومن تحت أرجلهم} فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى: لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} هذا استدعاء لإيمانهم، وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم، وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها، إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا.
ولمّا رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة، رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهمّ لأنه هو الدائم الباقي، والذي به النجاة السرمدية، والنعيم الذي لا ينقضي.
ومعنى إقامة التوراة والإنجيل: هو إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه كقولهم: أقاموا السوق أي حركوها وأظهروها، وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيآته.
وفي قوله: والإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب.
وظاهر قوله: وما أنزل إليهم من ربهم، العموم في الكتب الإلهية مثل: كتاب أشعياء، وكتاب حزقيل، وكتاب دانيال، فإنها مملوءة من البشارة بمبعث الرسول.
وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن.
وظاهر قوله: لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أنه استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، كما يقال: قد عمه الرزق من فرقه إلى قدمه ولا فوق ولا تحت حكاه الطبري والزجاج.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدّي: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها، والأرض نباتها كما قال تعالى: {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وذكر النقاش من فوقهم من رزق الجنة، ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا إذ هو من نبات الأرض.
وقيل: من فوقهم كثرة الأشجار المثمرة، ومن تحت أرجلهم الزرع المغلة.
وقيل: من فوقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدّل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط منها على الأرض، وتحت أرجلهم.
وقال تاج القراء: من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم، ومن تحت أرجلهم ما يأتيهم من سفلتهم وعوامّهم، وعبر بالأكل عن الأخذ، لأنه أجل منافعه وأبلغ ما يحتاج إليه في ديمومة الحياة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة} أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيهما من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى الله عليه وسلم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلًا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله اليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم {إِلَيْهِمُ} لما مر آنفًا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.
{لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها، كما قال سبحانه: {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف: 96] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقًا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، و«من» في الموضعين لابتداء الغاية.
وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذ به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولًا: {واتقوا لَفَتَحْنَا} [المائدة: 65] وثانيًا: {أَقَامُواْ} ذا وذا سلوكًا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون {مَا} في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة.
وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لو أنهم أقاموا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كَفَّرَ الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرًا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضًا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلًا لا أظنه يأخذ محلًا من فؤادك ولا أحسبه حاسمًا لما يقال، والقول بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة الخ لأكلوا كلهم من فوقهم الخ لا لو أقام بعضهم لا أراه إلا منكرًا من القول وزورًا.
وذكر بعض المحققين أن بعضًا فسر قوله سبحانه: {لأكَلُواْ} الخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملًا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطًا وجزاءًا لكان وجهًا انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}.