فصل: من فوائد الألوسي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس، إن قام ببيان حجج الله، وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضادّ الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانًا وصلابة في دين الله وشدّة شكيمة في القيام بحجة الله، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام، ومضطربو القلوب، من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلة وتوهمات باطلة، فإن كل محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى {إِنَّ في ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
قوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين}.
جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة أي إن الله لا يجعل لهم سبيلًا إلى الإضرار بك، فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} قال: «يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع عليّ الناس»، فنزلت: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعًا وعرفت أن الناس مكذبيّ، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني، فأنزلت: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ}» وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني: إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خمّ، في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس».
وأخرج ابن ابن أبي حاتم، عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، فقال: ألم تعلم أنّ الله قال: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} والله ما ورّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء.
وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ آية أنزلت من السماء أشدّ عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم الحج، فاجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم، فأنزل عليّ جبريل» فقال: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الآية، قال: «فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي وله الجنة، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة»، قال: «فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبيّ إلا يرمون بالتراب والحجارة ويبزقون في وجهي ويقولون: كذب صابىء، فعرض عليّ عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك»، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون»، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه.
قال الأعمش: فبذلك يفتخر بنو العباس ويقولون فيهم نزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56] هوى النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله عباس بن عبد المطلب.
وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} فأخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» قال الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه من حديث أبي سعيد.
وقد روى في هذا المعنى أحاديث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل، فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الوارث من بني النجار: لأقتلنّ محمدًا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به؛ فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه، فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حال الله بينك وبين ما تريد»، فأنزل الله سبحانه: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} الآية.
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وأخرج ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة، ولم يسمّ الرجل.
وأخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه، وفي الباب روايات.
وقصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، وهي معروفة مشهورة. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضًا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى الله عليه وسلم من تبليغ ما أوحي إليه.
{بَلَغَ} أي أوصل الخلق {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي «جميع ما أنزل كائنًا ما كان {مِن رَبّكَ} أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدًا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدًا وَإن لَّمْ تَفْعَلْ أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.
{فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي فما أديت شيئًا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعًا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغًا غير مبلغ، مؤمنًا به غير مؤمن به»
، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعًا وظنًا وجلاءًا وخفاءًا أصلًا وفرعًا، وأجاب في «الكشف» بأنه نفي الأولوية نظرًا إلى أصل الوجوب، وأيضًا إن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرًا إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يمتثل هذا الأمر أصلًا فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرًا واحدًا بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.
ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناءًا على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة جعله نظير:
أنا أبو النجم وشعري شعري

حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد وشعري شعري المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك كما قال ابن المنير أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟ا فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامًا حيث قال سبحانه: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظًا وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقًا وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعًا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلًا، وقيل وليته ما قيل المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك واستدل بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئًا من الوحي، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.
وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] قال: أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرًا إلى قلبه، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته، وقال الواسطي ألقى إلى عبده ما ألقى ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلى الله عليه وسلم، وما كان مخصوصًا به عليه الصلاة والسلام كان مستورًا، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرًا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في «صحيح البخاري» عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم أراد عنقه وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبرح به ** لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبح ما يأتونه حسنًا

ومن ذلك علم وحدة الوجود، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل، وقالوا: إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه «الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة» ما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن ذلك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم ذلك انتهى.