فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنورة، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرًا آخر غير ما بلغه صلى الله عليه وسلم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائمًا مقامك بعدك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في الأمر الأول بعد غمض العين عما فيه ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن، وأمر ونهى ذكر مرارًا للتأكيد والتقرير، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أو يترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر الثاني أمران: الأول: أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرًا آخر، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها اللهم هل بلغت أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر من أن سورة المائدة نزلت بين مكة.
والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلًا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب، وظاهر حاله صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية وغير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكره أهل السير يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب، والثاني: أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر، وغاية ما يلزم حينئذ لزوم التكرار، وقد علمت فائدته وكثرة وقوعه، سلمنا أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة، وكم قد بلغ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع، فقد أخرج ابن مردويه والضياء في «مختاره» عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض على عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه» قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون فيهم نزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} [القصص: 56] هوى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في «الدلائل» وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالًا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل قد عصمني» فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير، والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلًا بناءًا على ما أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} فأخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعًا بين الأخبار أن هذه الآية ما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلى الله عليه وسلم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال: «لا زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري» وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلى الله عليه وسلم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده.
وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب، والمعنى: بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} حيث قال لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذين دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل، وزعم بعضهم أن المراد إن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدًا وهو كما ترى فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم رسالاته على الجمع. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [67].
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفًا له وإيذانًا بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} مما يفصّل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحدًا، ولا خائف أن ينالك مكروه: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع، سترًا لبعض مساوئهم: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: شيئًا مما أرسلت به. لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض. فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعًا. كما أنّ من لم يؤمن ببعضها، كان كمن لم يؤمن بكلّها.
قال في «الانتصاف»: ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرًا معلومًا عند الناس، مستقرًّا في الأفهام أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلًا عن كتمان الرسالة من الرسول- استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام. وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامًّا بقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة. حتى يكون اللفظ متغايرًا، وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحد- أحسن رونقًا وأظهرُ طلاوة، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء. وهذا الفصل كاللباب من علم البيان.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} عِدةٌ منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، باعث له على الجدَّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} تعليل لعصمته، أي: لا يهديهم طريق الإساءة إليك، فما عذرك في مراقبتهم؟
تنبيهات:
الأول: لاخفاء في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ التام، وقام به أتمّ القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضرّاء وهو مكروب ومحروب، وقد لقى بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو، مع الضعف، يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإئثانه في الأعداء محذورًا، وبالرعب منه منصورًا، حتى أصبح سراج الدين وهّاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت لمسروق: من حدثك أنّ محمدًا كتم شيئًا مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...} الآية.
وفي «الصحيحين» عنها أيضًا أنها قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}.
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
قال ابن كثير: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمتُه بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفًا. كما ثبت في «صحيح مسلم» عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: يا أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقولون: اللهم! هل بلغت؟. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يا أيها الناس! أي: يوم هذا؟ قالوا يوم حرام. قال: أي: بلد هذا؟ قالوا بلد حرام، قال فأي شهر هذا؟ قالوا شهر حرام. قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: اللهم! هل بلَّغت؟ مرارًا قال ابن عباس: والله! إنها لوصية إلى ربه عز وجل ثم قال: إلا فليبلغ الشاهدُ الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض..!» وقد روى البخاريّ نحوه..
الثاني: تضمن قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الماورديّ في كتابه «أعلام النبوة» في الباب الثامن في معجزاته، عصمته صلى الله عليه وسلم. ما نصه:
أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بَعْدَ ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار يُحجُّ به من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مُدرَكًا بالخواطر الثاقبة تفكرًا واستدلالًا وإعجاز العيان معلومًا ببداية الحواس احتياطًا واستظهارًا، فيكون البليد مقهورًا بوهمه وعيانه، واللبيب مججوبًا بفهمه وبيانه، لأن لكل فريق من الناس طريقًا هي عليهم أقرب، ولهم أجذب، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلًا، وأعم دليلا. فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفسه. وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرًا، وترتد عنه أيديهم ذعرًا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرًا، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عنهم. سليمًا لم يُكْلَمْ في نفس ولا جسد. وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعد الله تعالى بها فحققها حيث يقول: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فعصمه منهم.