فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد يَخُصّ أحدًا بعلم ليس ممّا يرجع إلى أمور التّشريع، من سرّ يلقيه إلى بعض أصحابه، كما أسرّ إلى فاطمة رضي الله عنْها بأنّه يموت يومئذٍ وبأنّها أوّلُ أهله لحاقًا به.
وأسرّ إلى أبي بكر رضي الله عنه بأنّ الله أذِنَ له في الهجرة.
وأسرّ إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان، كما حدّث حذيفةُ بذلك عمرَ بن الخطّاب.
وما روي عن أبي هريرة أنّه قال: حَفِظت من رسول الله وِعائيْن، أمّا أحدهما فبثثته، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم.
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الّذي هَمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للنّاس، وهو في مرض وفاته، ثمّ أعرض عنه، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنّه لو كان كذلك لمَا أعرض عنه والله يقول له: {بَلّغْ ما أنزِل إليك من ربّك}.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لمَسْروق: ثلاث من حدّثك بهن فقد كذبَ، من حدّثك أنّ محمّدًا كتم شيئًا ممّا أنزل عليه فقد كذَب، والله يقول: {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فمّا بلغت رسالاته} الحديث.
وقوله: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته} جاء الشّرط بإنْ الّتي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط، لأنّ عدم التّبليغ غيرُ مظنون بمحمدّ صلى الله عليه وسلم وإنّما فُرض هذا الشّرط ليبني عليه الجوابُ، وهو قوله: {فمَا بَلَّغْتَ رسالاته}، ليستفيق الّذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النّازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين، وليبكت من علم الله أنّهم سيفترون، فيزعمون أنّ قُرآنًا كثيرًا لم يبلّغه رسول الله الأمَّةَ.
ومعنى {لم تفعل} لم تفعل ذلك، وهو تبليغ ما أنزل إليك.
وهذا حذف شائع في كلامهم، فيقولون: فإن فعلت، أو فإن لم تَفعل.
قال تعالى: {ولا تَدْعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فَعَلْتَ فإنّك إذًا من الظّالمين} [يونس: 106] أي إن دعوتَ ما لا ينفعك، يَحذفون مفعول فعلتَ ولم تَفْعَل لدلالة ما تقدّم عليه، وقال تعالى: {فإن لم تَفْعَلوا ولن تفعلوا} في سورة [البقرة: 24].
وهذا ممّا جرى مجرى المثل فلا يتصرّف فيه إلاّ قليلًا ولم يتعرّض له أئمّة الاستعمال.
ومعنى تَرَتّب هذا الجواب على هذا الشّرط أنّك إنْ لم تُبلّغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلّغ الرّسالة، لأنّ كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتّصاف بعدم التّبليغ، ولأنّ المكتوم لا يدري أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه، وقد ظهر التّغاير بين الشّرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشّرط، إذ تقدير الشّرط: إنْ لم تبلّغ مَا أنزل، والجزاءُ، لم تُبلّغ الرّسالة، وذلك كاففٍ في صحّة بناءِ الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأوّلوه ممّا في الكشاف وغيره.
ثمّ يعلم من هذا الشّرط أنّ تلك منزلة لا تليق بالرسل، فينتج ذلك أنّ الرسول لا يكتم شيئًا ممّا أرسل به.
وتظهر فائدة افتتاح الخطاب بـ {يا أيّها الرسول} للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده، وفائدة اختتامه بقوله: {فما بلّغتَ رسالته}.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، وأبو جعفر {رسَالاته} بصيغة الجمع.
وقرأه الباقون {رِسالته} بالإفراد.
والمقصود الجنس فهو في سياق النّفي سواء مفرده وجمعهُ.
ولا صحّة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وأنّ نحو: لا رجال في الدار، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد، بخلاف نحو لا رجُلَ في الدّار.
ويظهر أنّ قراءة الجمع أصرح لأنّ لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنّه يحتمل الجنس والعهد، ولا شكّ أن نفي اللّفظ الّذي لا يحتمل العهد أنصّ في عموم النّفي لكن القرينة بيّنت المراد.
وقوله: {والله يعصمك من النّاس} افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأنّ المخاطب والسّامعين يترقّبون عقب الأمر بتبليغ كلّ ما أنزل إليه، أن يلاقي عنتًا وتكالبًا عليه من أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك.
فأمّا ما علينا فالله يعصمك، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمَّا.
على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من «دلائل الإعجاز» أنّ ممَّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثرُ؛ الوعدُ والضّمانُ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يُوعَد في تمام الوعد والوفاءِ به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد، كقول الرّجل: أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر. اهـ.
وقال ابن عاشور:
ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وأنَا به زعيم} [يوسف: 72].
فقوله: {والله يعصمك من النّاس} فيه هذا المعنى أيضًا.
والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه.
و{النّاس} في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه، وإنّما يَخاف عليه أعداءَه لا أحبّاءه، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله.
فالمراد العصمة من اغتيال المشركين، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيء صلى الله عليه وسلم إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس، إذ كان حريصًا على هدايتهم، ولذلك كان رسول الله، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته، يقول لهم: «أنْ تمنعوني حتّى أبيّنَ عنِ الله ما بعثني به أو حتّى أبلِّغ رسالات ربّي» فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممّن أوذي في الله: فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدْموه وقد شُجّ وجهه.
وهذه العصمة الّتي وُعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرّر وعدُه بها في القرآن كقوله: {فسيكفيكهم الله} [البقرة: 137].
وفي غير القرآن، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عَصمه من المشركين.
وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يُحرس في المدينة، وأنّه حَرَسه ذَاتَ ليلة سعدُ بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرَج رأسهُ من قُبّة وقال لهم: «الحَقُوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني»، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غَوْرَثٍ بننِ الحارث الّذي وجد رسول الله نائمًا في ظلّ شجرة ووجد سيفَه معلّقًا فاخترطه وقال للرسول: مَن يمنعك منّي، فقال: اللّهُ، فسقَط السيف من يد الأعرابي.
وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية.
والَّذين جعلوا بعض ذلك سببًا لنزول هذه الآية قد خلطوا.
فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء.
ثمّ أعقبه بقوله: {إنّ الله لا يهدي القوْمَ الكافرين} ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم.
والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلًا لكيدِ الرّسول والمؤمنين لطفًا منه تعالى، وليس المراد الهداية في الدّين لأنّ السياق غير صالح له. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}.
تبدأ الآية بخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عظمة رسولنا المصطفى عليه الصلاة والسلام وعلو مكانته عند من اصطفاه خاتمًا لرسالاته في الأرض أن الله ذكر الرسل في خطابه لهم بنداء أسمائهم فقط كقوله الحق: {يَاءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33].
أو قوله الحق: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30].
أو قوله الحق: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116].
أو قوله الحق: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ} [هود: 48].
فسبحانه ينادي كل رسول له بالاسم المشخص للذات بصرف النظر عن أي صفة، لكن رسول الله لم يُناد باسمه أبدًا بل ناداه الحق بالمشخص للوصف: {يا أيها الرسول}. أو قوله الحق: {يا أيها النبي}.
فكأنك يا رسول الله قد اجتمعت فيك كل مسائل الرسالة لأنك صاحب الدين الذي سينتهي العالم عنده ولا يكون بعد ذلك لله في الأرض رسالة إلا فهم يؤتيه الله لأحد في كتاب الله.
ومن عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أقسم بحياته، على الرغم من أن الحق لا يقسم بحياة أحد من البشر إلا رسوله، فقد أقسم بحياته. وهو سبحانه يقسم بما يشاء على ما يشاء، أقسم بالريح والضحى والليل والملائكة، لكنه ما حلف بحياة بشر أبدًا إلا حياة محمد صلى الله عليه وسلم. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
أي وحياتك يا محمد هم في سكرتهم يعمهون أي يترددون حيارى. ويقول الحق هنا مخاطبًا الرسول: {يا أيها الرسول}. وما دام محمد هو الرسول الخاتم الذي جاء مصدقًا لما بين أيديهم من الكتب، فمعنى هذا أن كل خير في أي كتاب سبق القرآن موجود في القرآن وفيه أيضًا زيادة مما تتطلبه مصالح الحياة المستجدة. وما دام الخطاب للرسول فهذا يعني أنه رسول مرسل من قبل الله بمنهج لخلقه ليبلغه لهم: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}. وكيف يقول الحق لرسوله: {بلِّغ} وهو أن يعلم أن مهمة الرسول هي البلاغ؟
لقد أراد سبحانه بذلك إخبار الناس أنه إن أبلغهم بما يكره بعضهم فهو يبلغ التزامًا بأمر الله، فهو لا يقول من عنده، ذلك أن الرسول عليه البلاغ، فإن أبلغ أحدًا ما يكدره فليس له مصلحة في ذلك. ويورد سبحانه ذلك حتى إذا بَلَّغ الرسول حكمًا من الأحكام فعليهم أن يستقبلوا الحكم على أساس أنه قادم من الله وسبحانه يعلم أن رسوله لا يكتم البلاغ ولكن ليجعل لرسوله العذر عند البشر، فهو سبحانه حين يخاطبهم بشيء قد يكرهونه، فهو بلاغ من الله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. أي أنه إن لم يفعل ولو في جزئية يسيرة من المنهج فهذا معناه أن البلاغ ناقص والله يريد أن يكون البلاغ كاملًا بالدين المتكامل.
إن التركيبة الإيمانية تقتضي أن يأتي القول بهذه الطريقة حتى ينسجم البلاغ بشكل كامل؛ فقد نزل المنهج بكليته، ويجب أن يُطبق بكليته من أجل أن ينصلح الكون وحتى لا تفسد حركة الإنسان في الكون، فقد أنزل سبحانه المنهج وأحكمه ليسير العالم على حسب تصميمه له دون أن يختل. ولذلك يقول الحق: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. وبذلك يعطي الحق رسوله المناعة الكاملة. فلم يأت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لخير الناس.
لقد سبق أنَ خلق الله آدم وأعطاه المنهج. وكان على آدم أن يبلغ المنهج إلى الذرية وقد فعل، لكنَّ بعضًا من أجيال بني آدم غفلت عن المنهج؛ فيبعث الحق الرسل لتذكر بالمنهج. ولا يأتي رسول إلا بعد أن يكون الفساد قد فشا وانتشر بين الناس. وقد جعل الله في النفس الإنسانية نفسًا لوامة، ونفسًا تأمر بالسوء، ونفسًا مطمئنة.
إن مهمة النفس اللوامة هي أن ترد على كل ما توسوس به النفس الأمارة بالسوء. لكن إن لم تلم النفس اللوامة، فالنفس الآمرة بالسوء تتمادى ولا يردعها رادع. أما النفس المطمئنة فهي النفس التي تطمئن إلى منهج الله. ومثال ذلك الإنسان الذي تلح عليه شهوته لارتكاب معصية ما فيرتكبها، ومن بعد ذلك يندم ويلوم نفسه، ويتوب عن المعصية، هذا الإنسان يردع نفسه ذاتيًا. لكن إن سيطرت النفس الأمارة بالسوء فلا رادع.