فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وماذا إذا ساد الفساد بين عموم الناس؟ وماذا لو لم يتناهَوْا عن المنكر الذي يفعلونه؟ هنا لابد أن يرسل الحق رسولًا بمعجزة جديدة ليأخذ العالم إلى منطق الرشاد ومنهج الحق.
ولا يختار الحق الرسول إلا إذا علم الرسول أنه مبلغ عن الله. وسبحانه في الآية التي نحن بصددها يعطي رسوله المعذرة إن بلغ قومه شيئًا يسؤوهم، فما على الرسول إلا البلاغ في قوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}. ونعرف أن الرسالة تقتضي: المرسِل وهو الله، والمرِسَلَ إليهم وهم الخلق، ومرسَلًا وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمرسَل به وهو ما نزل على الرسول ليبلغه. وفي كل أمر مثل هذا نجد أن كلمة «أرسل» تتعدى إلى مفعولين؛ المرسَل: مثال ذلك أرسلت فلانًا إلى فلان، والمرسل إليه: وهو فلان. إذن فهنا مفعولان اثنان، أولهما تعدى الفعل إليه بذاته والآخر تعدى إليه الفعل بحرف الجر.
وحرف الجر هنا هو: «إلى». وبطبيعة الحال يعرف الرسول أنه مرسَل إلى الناس من الله رعاية لمصالحهم؛ فليس في أمر الرسالة شيء لصالح الله. وإن رأيت تعديًا ب «إلى» فهو لتحديد الغاية المرسل إليها، مثل قوله الحق:
{وَرَسُولًا إلى بني إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49].
وهذا يوضح أن عيسى عليه السلام جاء مبعوثًا بمنهج إلى بني إسرائيل لصالح بني إسرائيل. ومثلما يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}. أي لصالح الناس. و«اللام» هنا تفيد المعنيين؛ النفعية والغاية.
{بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي أنه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ الرسالة كاملة فمعنى ذلك أن البلاغ يكون ناقصًا. ومعاذ الله أن يكون بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنقص شيئًا، فمنهج الله كل متكامل.
وقد يقول قائل: ولكن الناس قد لا تؤدي فروض الله في مواعيدها، والمثال على ذلك هو الصلاة. ونقول: إن هذا عجز في إدارة الناس لحياتهم حسب منهج الله. ومن واجب المجتمعات أن تنظم حركة الناس اليومية من بعد صلاة الفجر إلى الظهر. وفي ذلك قدر هائل من الحيوية والنشاط، وينتهي العمل عند الظهر، فلا تتصادم حركة الناس مع منهج الله، ولا توجد عرقلة ولا نشاز في حركتهم.
ثم يقول الحق: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}. وكان لابد أن يأتي هذا القول الحكيم؛ لأننا نعرف أن الرسول لا يجيء إلا بعد أن يعم الشر ويسود الفساد، ذلك أنه لو لم يسد الفساد، ولم يعم الشر لا كتفى الله بالمجتمع ليردع بعضه بعضًا، أو يكتفي الحق بأن تردع النفسُ اللوّامةُ النفسَ الأمارةَ بالسوء لتستوي النفس المطمئنة على عرش السلوك البشري.
لكن عندما يعم الفساد الكونَ. فالسماء ترسل الرسول بمنهج يصلح حال البشرية. وبطبيعة الحال لن يترك المجتمعُ الشريرُ الرسولَ لحاله بل يقاومه؛ لأن مثل هذا المجتمع يريد أن تكون كفة الكون غير متوازنة؛ لأن هناك منتفعين بالفساد والشر، وهم المدافعون عن الفساد، فإن جاء من ينصف الضعفاء والمظلومين فلابد أن يتعرض للمتاعب التي تأتيه من قبل الأقوياء المفسدين.
إن هذه المتاعب تبدأ أول ما تبدأ في النفس؛ ولأن الرسول مخاطب من الله فيمكنه أن يتحملها لأن الحق قد أعده لهذه المهمة، ومثل تلك المتاعب تأتي أيضًا للأتباع، لذلك يمدهم الله بالمدد الذي يجعلهم يتحملونها. والحق يحفظ للرسول ذاته على الرغم من كل ما يحدث: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}.
فكأن الحق يقول لرسوله: اطمئن يا محمد؛ لأن من أرسلك هداية للناس لن يخلي بينك وبين الناس. ولن يجرؤ أحد أن ينهي حياتك. ولكني سأمكنك من الحياة إلى أن تكمل رسالتك. وإياك أن يدخل في رُوعك أن الناس يقدرون عليك، صحيح أنك قد تتألم، وقد تعاني من أعراض التعب في أثناء الدعوة، ولكن هناك حماية إلهية لك. ونحن نعلم قدر المتاعب التي تعرض لها الرسول صلى الله عليه وسلم. ألم تكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؟ ألم يشج وجهه؟ ألم تدم أصبعه فيقول:
إن أنت إلا أصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت

لكن قول الحق سبحانه لرسوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} لم يكن المقصود هو منع الجهاد في سبيل الله والمعاناة في سبيل نشر الدعوة. ولكن الحق يبين لرسوله: إن أحدًا غير قادر على أن يأخذ حياتك.
ولم يمنع سبحانه المتاعب عن رسوله الكريم حتى لا يكون هناك أحد الداعين إلى الله لا يتحمل من الآلام أكثر مما تحمل رسوله صلى الله عليه وسلم، ولننظر ونستمع جيدًا إلى «ما ترويه عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- حول هذه الآية إنها قالت: سهر رسول الله ذات ليلة وأنا إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ قال: «ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة»، فقالت: وبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت سلاح فقال صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك. فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبّة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله».
وهناك باحثة بلجيكية عكفت على دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى هذه النقطة، فتوقفت عندها لتقول: لو كان هذا الرجل يخدع الناس جميعًا ما خدع نفسه في حياته، ولو لم يكن واثقًا من أن الله يحرسه لما فعل ذلك كتجربة واقعية تدل على ثقته في خالقه. وأضافت الباحثة البلجيكية: ولذلك أنا أقول بملء اليقين: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله». لقد أسلمت المرأة لمجرد وقوفها عند لمحة واحدة من لمحات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق من بعد ذلك: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}. ونعرف أن الهداية تعني الدلالة الموصلة إلى الغاية، وهي أيضًا المعونة التي توصل طالب الهداية إلى الغاية. وكان الكفار الذين يبيتون للرسول وينهكون أنفسهم في المكر والتفكير والتبييت، فيقطع الحق سبحانه وتعالى عليهم كل سبيل، وينصره عليهم، ويأتي التطبيق العملي لنصر الله للمؤمنين في بدر: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].
لقد بيتوا، ولكن عند المواجهة لم يقدروا على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه ولم يستطعوا إيذاءه، برغم المكر والتبييت؛ لأن الحق قطع عليهم كل سبيل لإيذاء محمد، ولن توجد وسيلة من وسائل اللؤم والخبث قادرة على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تمثل ذلك يوم خرج رسول الله مهاجرًا وغطى الله أبصار فتيان القبائل الذين حملوا سيوفهم ليقتلوا محمدًا وليفرق دمُه بين القبائل فلم يبصروه لأن الله جعل على أبصارهم غشاوة.
إذن فكلما فكروا في طريقة سد الله عليهم منافذ تنفيذ فكرتهم. وكأنه يقول لهم: لن تستطيعوا مصادمة محمد في منهجه لا بالعلن ولا بالدس ولا بالخفية، بل أنتم- أيها الكفار- تخدمون الدعوة من حيث تريدون هدمها، فقيامكم ضد محمد في بداية الدعوة كان لإثبات أن الحق جل وعلا أراد أن يشتد عود الدعوة بكفر أهل قريش. وعندما أردتم قتل محمد وأن يتفرق دمه بين القبائل خرج محمد سالمًا وأغشى الله أبصار الذين أرادوا القتل. وهاجر صلى الله عليه وسلم. وفي الطريق إلى الهجرة يكون دليله من الكفار وهو عبدالله بن أريقط. كان ذلك لنعلم أن الكفر كان وسيلة الهداية إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبدالله بن أريقط وهو كافر لا تغريه المكافأة أن يشى ويسعى بالرسول لدى مشركي مكة. ولكنهم لم يتخذوا من كل ذلك عبرة. وكذلك الغنم تُعفَّى الأثر، والأرض تشد قوائم فرس سراقة لتغوص وتسوخ فيها.
إذن فكل جنود الله في صف محمد بن عبدالله. وهكذا رأينا كيف لم يهد الحق القوم الكافرين إلى الغاية التي أرادوها وهي التمكن من محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضًا لا يهديهم الله إلى الإيمان. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)}.
أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعًا، وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني، فأنزل {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك}».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت {بلغ ما أنزل إليك من ربك} قال: يا رب، إنما أنا واحد كيف أصنع ليجتمع عليّ الناس؟، فنزلت {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم، في علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} أن عليًا مولى المؤمنين {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عنترة. أنه قال لعلي هل عندكم شيء لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس؟ فقال: ألم تعلم أن الله قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء.
أما قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}.
أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم، فنزل عليّ جبريل فقال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} قال: فقمت عند العقبة، فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم، وتنجحوا ولكم الجنة. قال: فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهي ويقولون: كذاب صابئ، فعرض عليّ عارض فقال: يا محمد، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك»، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه، قال: الأعمش فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] هوى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله عباس بن عبد المطلب.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن مردويه عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله».
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت {والله يعصمك من الناس} ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فذهب ليبعث معه فقال: يا عم، إن الله قد عصمني حاجة لي إلى من تبعث».
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجلًا من بني هاشم يحرسونه، فقال: يا عم، إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل، حتى نزلت آية العصمة {والله يعصمك من الناس}».