فصل: تفسير الآية رقم (69):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنك يا رسول الله لا تواجه طاقة محدودة ولكنك تواجه طاقة من الشر النامي.
وكل آية إنما تهدي الذي في أعماقه بذرة من خير، أما الذي ينتفي الخير من داخله فالمسألة تزيده سراشة في قلبه. إن الشرير يُصَعِّد الشر ويزداد جُرمه وإثمه، أما الخير فينزل من قِمّةِ الجرم إلى أقل درجة. ولنا المثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فالحق يقول على لسان أخوة يوسف: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8].
ومن بعد ذلك قالوا لأبيهم: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ}. ثم أخذوا في التبييت والتدبير وقالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}. وكان أول التدبير لهم هو ما قاله الحق حكاية عنهم: {اقتلوا يُوسُفَ}.
ومعنى القتل هو إزهاق الروح. وهذه أعلى درجات الشر، لكنهم يتراجعون عنها ويقولون: {أَوِ اطرحوه أَرْضًا}. فهم لم يرغبوا في قتله، واكتفوا بأن يتركوه في مكان بعيد، وتصوروا أن بعض السيارة قد يلتقطه فيبعدون يوسف عن أبيه. إذن هم بدأوا التدبير قتلًا، ثم انتهوا بالتفكير لنجاة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9].
والمرحلة الثالثة قولهم: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} والجب فيه مياه، وهناك أناس كثيرون يذهبون إلى مصادر المياه. هكذا يورد الحق لنا كيفية نمو الخير من بطن الكيد.
إذن، فقوله الحق: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أي أن الكثير منهم سيواصل رحلة التصعيد في الشر، فوطن نفسك يا محمد على ذلك.
ونلحظ أن الحق قد وضع صيانة لاحتمال أن تفكر قلة منهم في الإيمان، لذلك لم يشملهم كلهم بالحكم، ولكن الحكم شمل الكثرة من هؤلاء الكافرين. ولذلك يقول الحق لرسوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تحزن عليهم يا رسول الله. فعلى الرغم من عداوة وشراسة من صادموا دعوته صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم كل تلك المحاولات، كان لا يكف عن الدعاء لهم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». وكان لا يكف عن القول: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله». وقد تم ذلك بالفعل.
وكان الصحابة بعد الغزوات الأولى يقول كل منهم للآخر: أنا حزين لأن عمرًا أفلت مني ولم أقتله. فيقول الآخر: وأنا حزين لأن عكرمة أفلت مني. ويقول الثالث: وأنا لا أدري كيف أفلت منا خالد بن الوليد. ولم يمكن الحق الصحابة الأوائل من هؤلاء المقاتلين الأشاوس لأنه يدخرهم للإسلام ليحملوا السيف للإسلام مدافعين وناشرين لدعوته. وها هوذا عكرمة بن أبي جهل يتلقى الطعنة الأخيرة في حياته فيضع رأسه على فخذ خالد بن الوليد ويسأله: أهذه ميتة ترضى عني رسول الله؟ إذن فقد أراد الله من عدم تمكين المسلمين منهم في أوائل الغزوات أن يكونوا جندًا للإسلام بقدراتهم القتالية فاستبقاهم أحياء ليخدموا الدعوة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (69):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما مضى في هذه السورة غالبًا في فضائح أهل الكتاب لاسيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر، ومردوا على الجحد، وتمرنوا على البهت، وعتوا عن أوامر الله، كان ذلك موجبًا لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل، أو لأن يقولوا هم: ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله، أو يقال- وهو أحسن: لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم، أو يقال: إنه لما طال الكلام معهم.
كان ربما ظن أن الأمر ترغيبًا وترهيبًا وأمرًا ونهيًا خاص بهم، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء، تشريفًا لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة فقال سبحانه: {إن الذين آمنوا} أي قالوا: آمنا {والذين هادوا} أي اليهود {والصابئون} أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية {والنصارى} أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام.
ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكًا في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفيًا بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع، كان قبول توبتهم جديرًا بالإنكار، وكانوا هم ينكرون عنادًا فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن، فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا فأخرجوا منه تنبيهًا على أن المقام لا يقتضيه لهم، فابتدىء بذكرهم اعتراضًا ودل على الخبر عنهم بخبر «إن»، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته، كان غيرهم أولى بذلك، ولما كان حال النصارى مشتبهًا، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما تقدم من ذمهم، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود {من آمن} أي منهم مخلصًا من قلبه، ولعله ترك الجار إعراقًا في التعميم {بالله} أي الذي له جميع الجلال والإكرام {واليوم الآخر} أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته {وعمل صالحًا} أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل، ويتطابق الجنان مع الأركان {فلا خوف عليهم} يعتد به في دنيا ولا في آخرة {ولا هم} أي خاصة {يحزنون} أي على شيء فات، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلًا، وأما غيرهم فهم في الحزن أبدًا، وفي الآية تكذيب لهم في قولهم {ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] المشار إليه في هذه السورة بنسبتهم إلى أكل السحت في غير موضع، وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك كما سبق في أوائل البقرة، وقال في السفر الرابع منها عند ذكر التيه ووصاياهم إذ أدخلهم الأرض المقدسة، ومكنهم فيها بأشياء منها القربان: وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إليّ أو بين أولادكم لأحقابكم ويقرب قربانًا لريح قتار الذبيحة للرب يفعل كما فعلتم أنتم، ولتكن السنة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون بينكم سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد، والذين يقبلون إليّ من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم، ولتكن لكم سنة واحدة وحكومة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عطية:

{الذين} لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين، وقال الزجاج المراد بقوله: {إن الذين آمنوا} المنافقون، فالمعنى أن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
قال القاضي أبو محمد: فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى التأويل الأول ويكون قوله: {من آمن} في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر الإعراب يقتضي أن يقال: والصابئين، وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير، وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه: الأول: وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء على نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصائبون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالًا، فكأنه قيل: كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأزال ذنبهم، حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضًا كذلك.
الوجه الثاني: وهو قول الفراء أن كلمة {إن} ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وجوه: الأول: أن كلمة {إن} إنما تعمل لكونها مشابهة للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة.
الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعًا بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير، وهذا مذهب الكوفيين، وقد بيناه بالدليل في سورة البقرة في تفسير قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر هاهنا كذلك، لأن الاسم هاهنا هو قوله: {الذين} وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا كان اسم {إن} بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف، والرفع على إسقاط عمله، فلا يجوز أن يقال: إن زيدًا وعمرو قائمان لأن زيدًا ظهر فيه أثر الإعراب، لكن إنما يجوز أن يقال: إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا، وإن هذا نفسه شجاع، وإن قطام وهند عندنا، والسبب في جواز ذلك أن كلمة {إن} كانت في الأصل ضعيفة العمل، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه، وهو كونه مبتدأ، فهذا تقرير قول الفراء، وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين، لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح، وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم، وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه، فكان ذلك أولى. اهـ.

.قال الثعلبي:

{إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى} كان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفًا على الذين قبل دخول أنّ فلا يحدث معنى كما تقول: زيد قائم، وأن زيدًا قائم معناها واحد، وقرأ الحسن إن اللّه وملائكته برفع التاء. اهـ.

.قال السمرقندي:

وقال: في هذه السورة {والصابئون} وقال في موضع آخر: {والصابئين} لأنه معطوف على خبر إن وكل اسم معطوف على خبر إن، كان فيه طريقان، إن شاء رفع، وإن شاء نصب، كقوله: «إن زيدًا قادم وعمرو» إن شاء نصب الثاني، وإن شاء رفعه، كقوله تعالى: {أَنَّ الله برىء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] وقد قرأ: ورسولَه ولكنه شاذ، وكذلك هاهنا جاز أن يقول: (والصابئين) {والصابئون}، إلا أن في هذه السورة كتب بالرفع. اهـ.

.قال ابن عطية:

واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و{الصابئون} بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري {والصابين} وهذه قراءة بينة الإعراب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري {والصابيون} بكسر الباء وضم الياء دون همز وقد تقدم في سورة البقرة وأما قراءة الجمهور {والصابئون} فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى» كذلك، وأنشد الزجاج نظيرًا في ذلك:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق

فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا: و{الصابئون} عطف على {الذين}، إذ الأصل في {الذين} الرفع وإذ نصب {إن} ضعيف وخطأ الزجّاج هذا القول وقال: {إن} أقوى النواصب، وحكي أيضًا عن الكسائي أنه قال و{الصابئون} عطف على الضمير في {هادوا} والتقدير هادوا هم الصابئون، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا، وقيل إن معنى نعم، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وروي عن بعضهم أنه قرأ {والصابئون} بالهمز اهـ.