فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم} [البروج: 10] الآية، ووجود الفاء فيه يعيّن كونه خبرًا عن «من» الموصولة وليس خبر إنّ على عكس قول ضابي بن الحارث:
ومن يَك أمسى بالمدينة رحلُه ** فإنّي وقبّار بها لغريب

فإنّ وجود لام الابتداء في قوله: «لغريب» عيَّن أنّه خبر إنّ وتقديرَ خبر عن قبّار، فلا ينظّر به قوله تعالى: {والصابون}.
ومعنى {من آمن بالله واليوم الآخر} من آمن ودَام، وهم الّذين لم يغيّروا أديانهم بالإشراك وإنكارِ البعث؛ فإنّ كثيرًا من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التّوراة.
ومنهم من جعل عُزيرًا ابنًا لله، وإنّ النّصارى ألَّهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب.
وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة (62).
ثمّ إنّ اليهود والنّصارى قد أحْدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: {نحن أبناء الله وأحِبَّاؤه} [المائدة: 18] وقولِهم {لن تمسّنا النّار إلاّ أيَّامًا معدودة} [البقرة: 80]، وقول النّصارى: إنّ عيسى قد كفَّر خطايا البشر بما تحمّله من عذاب الطّعن والإهانة والصّلب والقتل، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنّهم عطّلوا الجزاء وهو الحكمة الّتي قُدّر البعث لتحقيقها.
وجمهور المفسّرين جعلوا قوله: {والصابون} مبتدأ وجعلوه مقدّمًا من وتأخير وقدّروا له خبرًا محذوفًا لدلالة خبر «إنّ» عليه، وأنّ أصل النظم: أنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى لهم أجْرهم إلخ، والصابون كذلك، جعلوه كقول ضابي بن الحارث:
فإنّي وقبّار بها لغريب

وبعض المفسّرين قدّروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة.
والّذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النّظم وأليق بمعنى هذه الآية.
وبعدُ فممّا يجب أن يُوقن به أنّ هذا اللّفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النّبيء صلى الله عليه وسلم وكذلك تلقّاه المسلمون منه وقرؤوه، وكُتب في المصاحف، وهم عَرب خلّص، فكان لنا أصلًا نتعرّف منه أسلوبًا من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالًا غير شائع لكنّه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أنّ من الشائع في الكلام أنّه إذا أتي بكلام موكّد بحرف «إنّ» وأتي باسم إنّ وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفًا هو غريب عن ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعًا ليدلّوا بذلك على أنّهم أرادوا عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدّرَ السامع خبرًا يقدّره بحسب سياق الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى: {أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه} [التوبة: 3]، أي ورسوله كذلك، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا، كان الإتيان بلفظهم مرفوعًا تنبيهًا على ذلك.
لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعًا إلاّ بعد أن تستوفي «إنّ» خبرها، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّرًا، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضًا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم.
والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود.
فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفًا على اسم «إنّ» فلم يكن عطفه عطف جملة.
وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحجّ مقدّمًا على النّصارى ومنصوبًا، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنّهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.
ثمّ عقّب ذلك كلّه بقوله: {وعمل صالحًا}، وهو المقصود بالذّات من ربط السلامة من الخوف والحزن، به، فهو قيد في المذكورين كلّهم من المسلمين وغيرهم، وأوّل الأعمال الصّالحة تصديق الرّسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى: {وما أدراك ما العقبة إلى قوله ثم كان من الّذين آمنوا} [البلد: 12 17]. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}.
تَقَدَّمَ أَنَّ نِدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَقَبِ الرَّسُولِ لَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا ثَانِيهُمَا، وَكِلَاهُمَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ فِي دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمُحَاجَّتِهِمْ فِي الدِّينِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحُسْنِ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَبَدْءِ الْعَهْدِ بِالتَّبْلِيغِ الْعَامِّ، وَكَأَنَّهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وُضِعَتْ فِي آخِرِ سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ لِلتَّذْكِيرِ بِأَوَّلِ الْعَهْدِ بِالدَّعْوَةِ فِي آخِرِ الْعَهْدِ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَرَوَتِ الشِّيعَةُ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ النَّصُّ عَلَى خِلَافَةِ عَلِيٍّ بَعْدَهُ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَشَجَّعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِوِلَايَةِ عَلِيٍّ فَتَخَوَّفَ أَنْ يَقُولُوا: حَابَى ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنْ يَطْعَنُوا فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ. فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ فِي غَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ وَأَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ مُخْتَلِفَةٌ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُوَالَاةِ عَلِيٍّ شَاعَ وَطَارَ فِي الْبِلَادِ، فَبَلَغَ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ الْفِهْرِيَّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَكَانَ بِالْأَبْطَحِ، فَنَزَلَ وَعَقَلَ نَاقَتَهُ وَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَرْتَنَا عَنِ اللهِ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَقَبِلْنَا مِنْكَ، ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ: ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِهَذَا حَتَّى مَدَدْتَ بِضَبْعَيِ ابْنِ عَمِّكَ وَفَضَّلْتُهُ عَلَيْنَا وَقُلْتَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعْلِيٌّ مَوْلَاهُ» فَهَذَا مِنْكَ أَمْ مِنَ اللهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، هُوَ أَمْرُ اللهِ»، فَوَلَّى الْحَارِثُ يُرِيدُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: {اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطَرَ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (8: 32) فَمَا وَصَلَ إِلَيْهَا حَتَّى رَمَاهُ اللهُ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ عَلَى هَامَتِهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ} (70: 1، 2)... إِلَخْ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَوْضُوعَةٌ، وَسُورَةُ الْمَعَارِجِ هَذِهِ مَكِّيَّةٌ، وَمَا حَكَاهُ اللهُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ {اللهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ} كَانَ تَذْكِيرًا بِقَوْلٍ قَالُوهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ بِبِضْعِ سِنِينَ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ النُّعْمَانِ هَذَا كَانَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الصَّحَابَةِ، وَالْأَبْطَحُ بِمَكَّةَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ غَدِيرِ خُمٍّ إِلَى مَكَّةَ، بَلْ نَزَلَ فِيهِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ حِجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
أَمَّا حَدِيثُ «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِّيٌّ مَوْلَاهُ» فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَبُرَيْدَةَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَالضِّيَاءِ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنِ الْبَرَاءِ، وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَوَثَّقَ أَيْضًا سَنَدُ مَنْ زَادَ فِيهِ: «اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»... إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَذَكَرَ أُصُولَ الدِّينِ وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخْلِفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، اللهُ مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ»، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ مَنْ ذُكِرَ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ، وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ لَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: هَنِيئًا لَكَ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ. وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَهُ تَبْرِئَةُ عَلِيٍّ مِمَّا كَانَ قَالَهُ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْيَمَنِ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ إِلَيْهِ؛ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ قَدْ وَجَّهَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ مَنْ أَسْلَمَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَجَّلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدْرِكَ مَعَهُ الْحَجَّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَسَا ذَلِكَ الرَّجُلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُلَّةً مِنَ الْبَزِّ الَّذِي كَانَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَوَجَدَ عَلَيْهِمُ الْحُلَلَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَانْتَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شَكْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ فِي غَزْوَةِ الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ جَفْوَةً فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْكُو عَلِيًّا بِغَيْرِ حَقٍّ؛ إِذْ لَمْ يَفْعَلُ إِلَّا مَا يُرْضِي الْحَقَّ، خَطَبَ النَّاسَ فِي غَدِيرِ خُمٍّ، وَأَظْهَرَ رِضَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَوِلَايَتَهُ لَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاتِهِ. وَغَدِيرُ خُمٍّ: مَكَانٌ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ، قَرِيبٌ مِنْ رَابِغٍ، عَلَى بُعْدِ مِيلَيْنِ مِنَ الْجُحْفَةِ. قَالُوا: وَقَدْ نَزَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَطَبَ النَّاسَ فِيهِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدِ اتَّخَذَتْهُ الشِّيعَةُ عِيدًا عَلَى عَهْدِ بَنِي بُوَيْهِ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَيَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وِلَايَةِ السُّلْطَةِ، الَّتِي هِيَ الْإِمَامَةُ أَوِ الْخِلَافَةُ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى، بَلِ الْمُرَادُ بِالْوِلَايَةِ فِيهِ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ وَالْمَوَدَّةِ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا فِي كُلٍّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (5: 51) وَمَعْنَاهُ مَنْ كُنْتُ نَاصِرًا وَمُوَالِيًا لَهُ فَعَلِيٌّ نَاصِرُهُ وَمُوَالِيهِ، أَوْ مَنْ وَالَانِي وَنَصَرَنِي فَلْيُوَالِ عَلِيًّا وَيَنْصُرْهُ. وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْفُو أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَيَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مَنْ يَنْصُرُ النَّبِيَّ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَهَذِهِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ نَصَرَ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَوَالَاهُمْ. فَالْحَدِيثُ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَاهُمْ مِثْلُهُ، بَلْ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُهُمْ وَيَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى مَنْ وَالَى مُعَاوِيَةَ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِ. فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِمَامَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَصْرِهِ إِمَامًا وَمَأْمُومًا. وَلَوْ دَلَّ عَلَى الْإِمَامَةِ عِنْدَ الْخِطَابِ لَكَانَ إِمَامًا مَعَ وُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالشِّيعَةُ لَا تَقُولُ بِذَلِكَ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ أَقْوَالٌ فِي ذَلِكَ، لَا نُحِبُّ اسْتِقْصَاءَهَا وَالتَّرْجِيحَ بَيْنَهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْجَدَلِ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَمَا دَامَتْ عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ غَالِبَةً عَلَى الْجَمَاهِيرِ فَلَا رَجَاءَ فِي تَحَرِّيهِمُ الْحَقَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَلَا فِي تَجَنُّبِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعَدَاءِ، وَلَوْ زَالَتْ تِلْكَ الْعَصَبِيَّةُ، وَنَبَذَهَا الْجُمْهُورُ لَمَا ضَرَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَئِذٍ ثُبُوتُ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ ذَاكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيهِ حِينَئِذٍ إِلَّا بِمِرْآةِ الْإِنْصَافِ وَالِاعْتِبَارِ، فَيَحْمَدُونَ الْمُحِقِّينَ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُخْطِئِينَ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (59: 10).
ثُمَّ إِنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْإِمَامَةِ لَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ لَتَوَاتَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ، وَلَتَصَدَّى عَلِيٌّ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ بِالنَّصِّ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا يَحْسُنُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَا احْتَجَّ بِالْآيَةِ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ آلِ بَيْتِهِ وَأَنْصَارِهِ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى غَيْرِهِ، لَا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَلَا يَوْمَ الشُّورَى بَعْدَ عُمَرَ، وَلَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ فِي زَمَنِهِ، وَهُوَ هُوَ الَّذِي كَانَ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّقِيَّةَ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ؛ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ، وَوُضِعَتْ لَهَا الرِّوَايَاتُ، وَاسْتُنْبِطَتِ الدَّلَائِلُ بَعْدَ تَكَوُّنِ الْفِرَقِ، وَعَصَبِيَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْخِلَافَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهَا فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَهِيَ مِمَّا لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ، بَلْ لَوْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَّ عَلَى خَلِيفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَبْلِيغِ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، لَقَالَهُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَشْهَدَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى تَبْلِيغِهِ فَشَهِدُوا، وَأَشْهَدَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ. دَعْ سِيَاقَ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّهَا هِيَ نَفْسَهَا لَا تَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّبْلِيغِ فِيهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ إِمَارَةَ عَلِيٍّ، فَإِنَّ جُمْلَةَ {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي بَعْدَ جُمْلَةِ {بَلِّغْ} الْأَمْرِيَّةِ، وَجُمْلَةَ الْأَمْرِ بِالْعِصْمَةِ، وَجُمْلَةَ التَّذْيِيلِ التَّعْلِيلِيِّ بِنَفْيِ هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ، لَا يُنَاسِبُ شَيْءٌ مِنْهَا تَبْلِيغَ النَّاسِ مَسْأَلَةَ الْإِمَارَةِ، فَتَأَمَّلِ الْآيَةَ فِي ذَاتِهَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، لَا بِعَيْنِ التَّقْلِيدِ.