فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحقّ أنّ إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النّحاة تسامح.
وقد أطلقه صاحب الكشاف في هذه الآية، لأنّه لم يجد لها سببًا لفظيًا يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} في سورة البقرة: (87)، وفي قوله: {أو كُلّما عاهدوا عهدًا نبذة فريق منهم} (100) في تلك السورة، فإنّ التّقديم فيهما تبع لوقوعهما متّصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك، وإن كان قد سكت عليهما في الكشاف لظهور أمرهما في تينك الآيتين.
فالأحسن أن تكون جملة {فريقًا كذّبوا} حالًا من ضمير {إليهم} لاقترانها بضمير موافِق لصاحب الحال، ولأنّ المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم، وذلك لا يحصل إلاّ باعتبار كون المرسَل إليهم هذه حالهم مع رسلهم.
وليست جملة {فريقًا كذبوا} وما تقدّمها من متعلّقها استئنافًا، إذ ليس المقصود الإخبار بأنّ الله أرسل إليهم رسلًا بل بمدلول هذا الحال.
وبهذا يظهر لك أنّ التّقسيم في قوله: {فريقًا كذّبوا وفريقًا يقتلون} ليس لرسول من قوله: {كلّما جاءهم رسول} بل ل {رُسلًا}، لأنَّنا اعتبرنا قوله: {كلّما جاءهم رسول} مقدّمًا من تأخير.
والتقدير: وأرسلنا إليهم رسلًا كذّبوا منهم فريقًا وقتلوا فريقًا كُلّما جاءهم رسول من الرسل.
وبهذا نستغني عن تكلّفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني.
وقوله: {بما لا تهوى أنفسهم} أي بما لا تحبّه.
يقال: هَوِي يهوَى بمعنى أحبّ ومَالت نفسه إلى ملابسة شيء.
إنّ بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلًا والخسران آجلًا، ولولا ذلك لتُرك النّاس وما يهوَوْن، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النّفوس من هواها.
ولمّا وصفت بنو إسرائيل بأنّهم يكذّبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنّه لم يَخْلُ رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما: وهما التّكذيب والقتل.
وذلك مستفاد من {كلّما جاءهم رسول}، فلم يبق لقوله: {بما لا تهوى أنفسهم} فائدة إلاّ الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنّهم يكذّبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عُذرًا من تكليففٍ بمشقّة فادحة، أو من حدوث حادثثِ ثائرة، أو من أجل التّمسّك بدين يأبون مفارقته، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرّد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطّل بتمرّدهم فائدة التّشريع وفائدة طاعة الأمّة لهُداتها.
وهذا تعليم عظيم من القرآن بأنّ من حقّ الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنّها إذا رامت حمل علمائها وهدَاتها على مسايرة أهوئها، بحيث يُعْصَوْن إذا دَعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حقّ عليهم الخسران كما حقّ على بني إسرائيل، لأنّ في ذلك قلبًا للحقائق ومحاولة انقلاب التّابع متبوعًا والقائد مقودًا، وأنّ قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخُلق كانوا غاشِّين لهم، وزالت فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المَرْعِيّ بالهَمَل والحَابِلُ بالنابل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يَشُمّ رائحةَ الجنّة» فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم: {إنّا وجدنا آباءَنَا على أمّة وإنَّا على آثارهم مهتدون} [الزخرف: 22]، وقال قوم شعيب {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} [هود: 87]، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثُمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهُوونه.
وتقديم المفعول في قوله: {فريقًا كذّبوا} لمجرّد الاهتمام بالتفصيل لأنّ الكلام مَسوق مساق التّفصيل لأحوال رُسل بني إسرائيل باعتبار ما لاَقوه من قومهم، ولأنّ في تقديم مفعول {يقتلون} رعاية على فاصلة الآي، فقدّم مفعول {كَذّبوا} ليكون المفعولان على وتيرة واحدة.
وجيء في قوله: {يَقتلون} بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعة إبلاغًا في التعجيب من شناعة فاعليها.
والضّمائر كلّها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّهم أمّة يخلُف بعضُ أجيالها بعضًا، وأنّها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائدُ متّبعة بحيث يكون الخَلف منهم فيها على ما كان عليه السلف؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعِلين، فإنّ الّذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الّذين اقتصروا على التكذيب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [70].
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} أي: على الإيمان بالله ورسله: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} أي: بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من الأحكام الحقة. مع أن وضع الرسالة، الدعوة إلى مخالفة الهوى: {فَرِيقًا} منهم: {كَذَّبُوا} مع ظهور دلائل صدقهم: {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} بعد التكذيب. سدًّا لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم.
لطيفتان:
الأولى: قال الزمخشريّ: جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.
قال الناصر في الانتصاف: ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرًا في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه، قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]. فأوقع قوله: {اسْتَكْبَرْتُمْ} جوابًا. ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. فلو قدر الزمخشري هاهنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلًا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى، لدلالة مثله عليه.
الثانية: قال الزمخشريّ: فأن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيًا وبالآخر مضارعًا؟ قلت: جيء: {يَقْتُلُونَ} على حكاية الحال الماضية استفظاعًا للقتل واستحضارًا لتلك الحال الشنيعة، للتعجيب منها.
قال في «الانتصاف»: أو يكون حالًا على حقيقته. لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في «البقرة»؛ وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي، وتمثيله بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63]. فعدلَ عن «فأصبحت» إلى «فتصبح» تصويرًا للحال واستحضارًا لها في ذهن السامع، ومنه:
بأني قد لقيت الغول تًهْوي ** بِسَهْبٍ كالصحيفة صَحْصَحَانِ

فأضربها بلا دَهَشٍ فخرّت ** صريعًا لليدين ولِلجرَانِ

وأمثاله كثيرة. انتهى.
قال الخفاجيّ: اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم، لقرينة ضمائر الغيبة، وترك تلك الآية- يعني آية البقرة- على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين. ليكون توبيخًا وتعبيرًا للحاضرين بفعل آبائهم. ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام. فتأمل. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا}.
والميثاق هو العهد المؤكد الموثق، الذي يقتضي الوفاء الشديد. ولا تُوثق العهود إلا مظنة المخالفة. والمواثيق في الإيمان بالله كثيرة. فهناك الميثاق الأول عندما كنا جميعًا في ظهور الآباء. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172].
أو الميثاق الذي أخذه الله لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81].
أو الميثاق الخاص الذي أخذ على كل أمة. وفي كل جزئية من جزئيات الدين يؤخذ ميثاق، فنحن في الإسلام مأخوذ علينا الكثير من المواثيق. وكذلك رأينا النبي وقد أخذ لنفسه الميثاق في العقبة، رأى الرسول أن ما يربطه بالأوس والخزرج الكثير، كما يربطه بكل قوم يحنون إلى الوحدة تحت راية إيمان واحد، وكان اليهود يعتبرون عرب الأوس والخزرج مجرد همج وخدم يعملون لهم، وأرتأوا السيادة لأنفسهم. وكلما اختلفوا معهم هددوهم بمجيء رسول قادم سيؤمنون به وسيقتلونهم تقتيلًا.
وكان كل من الأوس والخزرج يحاول أن يستميل اليهود إليه، فالأوس حالفت بني قريظة. وحالف الخزرج بني قينقاع وبني النضير. وتلقى الاثنان الوعيد من اليهود بعد ظهور النبي القادم، وذلك ما جعل كلًا من الأوس والخزرج يُسرع إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في موسم الحج نفر من ستة رجال ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فآمنوا به صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
وجاءوا في العام الذي يلي ذلك إلى موسم الحج وزادوا حتى صاروا اثني عشر رجلًا. وكانت المعاهدة ألا يشرك منهم أحد بالله وألا يسرق ألا يزني وألا يقتل أولاده وألا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصي رسول الله في معروف. وعادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن. وفي العام الثالث جاء ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان هما نسبية بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرة بن عديّ، وكانت مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد من ذلك إرباك قريش، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلْقَة (السلاح) وتكلم أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالًا وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم». وبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه.
وكانت بيعة العقبة ميثاقًا يضمن لأهل البيعة الجنة إن أوفوا به. وقد أوفوا. وهذا لون من العهود والمواثيق. وحين يخبرنا الحق هنا أنه أخذ من بني إسرائيل الميثاق، فمعنى ذلك أن هناك عهدًا موثقًا مؤكدًا: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وقد أخذ الحق الميثاق وأرسل رسلًا بالمنهج، لكنهم كلما جاء إليهم رسول تباحثوا: هل المنهج الذي جاء به على هواهم أولا؟. فإن لم يكن المنهج على هواهم قتلوا الرسول أو كذبوه على الرغم من أن الميثاق عهد مؤكد باتباع الرسول إن جاء بمعجزة ومنهج بلاغًا عن الله وتنفيذًا له في حركة الحياة.
لكنّ بني إسرائيل كانوا يتمردون على مناهج الرسل لأنها لا تأتي بما تهواه أنفسهم وأول التمرد التكذيب. وهو أول خطوة في طريق الإخلال بالميثاق، ولم يكتفوا بالتكذيب، إنما حاولوا حصار الرسول حتى لا يصل المنهج إلى آذان تهتدي به. ولذلك لا يكتفون بالتكذيب بل قد يقتلون الرسول لأنه جاء بما لا تهوى أنفسهم.