فصل: السؤال الثاني: لم ذكر أحد الفعلين ماضيًا، والآخر مضارعًا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.السؤال الثاني: لم ذكر أحد الفعلين ماضيًا، والآخر مضارعًا؟

والجواب: أنه تعالى بيّن أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام، وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه، وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه على قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين.
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام، وكانوا قد قصدوا أيضًا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام، لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبًا فكان كالحاضر.

.السؤال الثالث: ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}؟

والجواب: قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية، فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح، فكان التقديم لهذه الفائدة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (71):

قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{وحسبوا} أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء {ألاّ تكون} أي توجد {فتنة} أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى، بل استحقوا بأمرها، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرئ: تكون- بالرفع تنزيلًا للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق، وبالنصب كان الحسبان على بابه، وأن، على بابها خفيفة ناصبه للفعل، لأن القاعدة- كما ذكر الواحدي- أن الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع، وفعل يقع على وجهين كحسب: تارة تكون بمعنى طمع فتنصب، وتارة بمعنى علم فترفع، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ، فتنزل القراءتان على فريقين- والله أعلم، وأيضًا فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم {فعموا} أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلًا منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه، وهو انطماس البصائر {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] حتى في زمن موسى عليه السلام {وصموا} أي بعده وبعد يوشع عليهما السلام، لأن الصمم أضر من العمى، فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلًا، لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع {ثم تاب الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {عليهم} أي فرجعوا إلى الحق وتكرر لهم ذلك {ثم عموا} أي في زمن المسيح عليه السلام {وصموا} أي بعده.
ولما كان الإتيان بالضمير مفهمًا لأن ذلك عمهم كلهم، أعلم سبحانه أن ذلك ليس كذلك بقوله: {كثير منهم} إلا أن سوقه للعبارة هذا المساق يدل على أن من لم يكفر منهم كان مزلزلًا غير راسخ القدم في الهدى- والله أعلم، وربما دل عليه قوله: {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا {بصير بما يعملون} أي وإن دق وإن كانوا يظنون أنهم أسسوا عملهم على علم، وقد مضى في قوله: {من لعنه الله وغضب عليه} ما يشهد لهذا من عبادتهم بعلا الصنم وغيره من الأصنام مرة بعد مرة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وحسبوا} يعني وظنّ هؤلاء الذين كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء {أن لا تكون فتنة} يعني أن لا يعذبهم الله ولا يبتليهم بذلك الفعل الذي فعلوه وإنما حملهم على هذا الظن الفاسد أنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله.
فلهذا السبب حسبوا أن لا يكون فعلهم ذلك فتنة يبتلون بها.
وقيل: إنما قدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {ألا تَكُونَ فِتْنَةٌ} برفع نون {تكون} والباقون بالنصب، وذكر الواحدي لهذا تقريرًا حسنًا فقال: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره نحو: العلم والتيقن والتبين، فما كان مثل هذا يقع بعده «أن» الثقيلة ولم يقع بعده «أن» الخفيفة الناصبة للفعل، وذلك لأن الثقيلة تدل على ثبات الشيء، واستقراره، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و«أن» الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة، ومثاله من القرآن قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104] {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} [العلق: 14] والباء زائدة.
والضرب الثاني: فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، نحو: أطمع وأخاف وأرجو، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل، قال تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى} [الشعراء: 82] {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} [الأنفال: 26] {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80].
والضرب الثالث: فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو: حسب وأخواتها، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتًا ومستقرًا، وتارة بمعنى العلم فيما يكون مستقرًا.
إذا عرفت هذا فنقول: يمكن إجراء الحسبان هاهنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار، لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية، وإذا كان اللفظ محتملًا لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه في صحة كل واحدة من هاتين القراءتين، فمن رفع قوله: {أَن لا تَكُونُ} كان المعنى: أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وجعلت «لا» عوضًا من حذف الضمير، فلو قلت: علمت أن يقول: بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضًا من حذف الضمير: نحو السين وسوف وقد، كقوله: {علم أن سيكون} [المزمل: 20] ووجه النصب ظاهر.
ثم قال الواحدي: وكلا الوجهين قد جاء به القرآن، فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ} [الجاثية: 21] {الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ} [العنكبوت: 1، 2] ومثل قراءة من رفع {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم} [الزخرف: 80] {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} [المؤمنون: 55] {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَع} [القيامة: 3] فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها «لن» ومثل المذهبين في الظن قوله: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ} [القيامة: 25] {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا} [البقرة: 230] ومن الرفع قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن} [الجن: 5] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَدًا} [الجن: 7] فأن هاهنا الخفيفة من الشديدة كقوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: 20] لأن «أن» الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن، لأن «لن» تفيد التأكيد، و«أن» الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: ظنوا أن لا يبتلوا بتكذيبهم الرسل، وقتلهم الأنبياء، ويقال: ظنوا أن لا يعاقبوا، ولا يصيبهم البلاء والشدة والقحط.
ويقال: ظنوا أن قتل الأنبياء لا يكون كفرًا.
ويقال: ظنوا أن لا تفسد قلوبهم بالتكذيب وقتل الأنبياء.
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو: {أَن لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} بضم النون.
وقرأ الباقون بالنصب.
فمن قرأ بالنصب، بمعنى أن.
ومن قرأ بالضم يعني: حسبوا أنه لا تكون فتنة.
معناه: حسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
المعنى ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارًا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {تَكُونُ} بالرفع؛ ونصب الباقون؛ فالرفع على أن حَسِب بمعنى عَلِمَ وتَيقن.
و«إن» مخففّة من الثقيلة ودخول «لا» عوض من التخفيف، وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل وليس من حكمها أن تدخل عليه؛ ففصلوا بينهما ب «لا».
ومن نصب جعل «إن» ناصبة للفعل، وبقي حَسِب على بابه من الشك وغيره.
قال سيبويه: حسبت ألاّ يقولُ ذلك؛ أي حسبت أنه قال ذلك.
وإن شئت نصبت؛ قال النحاس: والرفع عند النحويين في حَسِب وأخواتها أجود كما قال:
أَلاَ زعمتْ بَسْبَاسَةُ اليومَ أنّني ** كَبِرتُ وألاّ يَشْهَدُ اللّهْو أمثالي

وإنما صار الرفع أجود؛ لأن حسِب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم كما قال الزجاج أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب {أَن لا تَكُونُ} بالرفع على {إن} هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف {إن} وحذف ضمير الشأن وهو اسمها وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته.
و{إن} بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن حسب هنا بمعنى علم، و{إن} لا تخفف إلا بعدما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنًا، ونقل ذلك عن الأخفش، و{تَكُونُ} على كل تقدير تامة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
عطف على قوله: {كَذّبوا} [المائدة: 70] و{يقتلون} [المائدة: 70] لبيان فساد اعتقادهم النّاشيء عنه فاسد أعمالهم، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور، لا عنْ فلتة أو ثائرة نفس حتّى يُنيبُوا ويتوبوا.
والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله: {كذّبوا} و{يقتلون}.
وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة. اهـ.