فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضللِ نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة، فتجنّبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله: {فعموا وصمّوا} مرادًا منه معناه الكنائي أيضًا، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله: {ثُمّ تاب الله عليهم}.
وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية {والله بصير بما يعملون}.
وقوله: {ثُمّ تاب الله عليهم} أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله: {أن لا تكون فتنة} وقوله: {ثُمّ تاب الله عليهم} أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، {ثم عَمُوا وصموا}، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضًا شديدًا مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.
ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم «بخنتصر» ملك «أشُور» فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح.
وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب «كُورش» ملك «فَارس» على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم.
وحادث الخراب الواقع في زمن «تِيطس» القائد الرّوماني (وهو ابن الأنبراطور الرّوماني «وسبسيانوس» فإنّه حاصر «أورشليم» حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضًا من الجوع، وقتَل منهم ألفَ ألففِ رجلٍ، وسبى سبعة وتسعين ألفًا، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح.
ثمّ قفّاه الأنبراطور «أدريان» الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضًا وخلط ترابها بالمِلح.
فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض.
وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوًّا كبيرًا فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولِي بأسسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْدًا مفعولًا ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيرًا إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيرًا عسى ربّكم أن يرحمكم} [الإسراء: 4 8] وهذا هو الّذي اختاره القفّال.
وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر.
وقد دلّت {ثمّ} على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عَمَيَيْننِ وصَمَمَيْننِ في زمنين سابقٍ ولاحقٍ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عينَ الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاءُ أنّ الفاعل واحد؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم تَوَارُثُ السجايا فيهم من حَسَن أو قبيح، وقد علم أنّ الّذين عَمُوا وصَمُّوا ثانية غير الّذين عَمُوا وصَمُّوا أوّل مرّة، ولكنّهم لمّا كانوا خلفًا عن سلف، وكانوا قد أورَثُوا أخلاقهم أبناءَهم اعتُبروا كالشيء الواحد، كقولهم: بنو فلان لهم تِرات مع بني فلان.
وقوله: {كثير منهم} بدل من الضّمير في قوله: {ثمّ عَمُوا وصَمّوا}، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم بُراء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعًا بالحق وثناء على الفضل.
وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله: {ثمّ عمُوا وصمّوا} هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله: {فَعَمُوا وصمّوا} كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيدُ تخصيصًا من عمومهما، مفيدًا تخصيصًا من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر، إذ قد اعتُبرت ضمائر أمّة واحدة، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله: {بني إسرائيل} [المائدة: 70].
ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثالُ عبد الله بن سَلام، وكان في المتقدّمين يُوشَعُ وكالب اللّذيْن قال الله في شأنها {قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب} [المائدة: 23].
وقوله: {والله بصير بما يعملون} تذييل.
والبصير مبالغة في المُبصر، كالحَكيم بمعنى المُحْكم، وهو هنا بمعنى العَليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يُبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم مَا لم يبصروه، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر {أن لا تكونَ} بفتح نون تكون على اعتبار «أن» حرف مصدر ناصب للفعل.
وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوبُ، وخَلَف بضم النّون على اعتبار «أن» مخفّفة من «أن» أخت «إنّ» المكسورةِ الهمزة، وأنّ إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة.
وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة، وأنّ اسمها ملتزَم الحذف، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة.
وهذا توهّم لا دليل عليه.
وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن.
وهذا أيضًا توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون مَحذوفًا لأنّه مجْتلب للتّأكيد، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره. اهـ.

.قال الفخر:

لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر، فنقول: إن فاعل هذا الجهل هو الله تعالى أو العبد، والأول: يبطل قوله المعتزلة، والثاني: باطل لأن الإنسان لا يختار ألبتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه.
فإن قالوا: إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم.
قلنا: حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر، إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لابد من انتهائها إلى الجهل الأول، ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه، فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى.
ثم قال تعالى: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل، والمقصود منه التهديد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والله بصير بما يعملون} هذا فيه تهديد شديد، وناسب ختم الآية بهذه الجملة المشتملة على بصير، إذ تقدّم قبله فعموا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين، تتخللهما توبة مِن الله عليهم، وبيَّن تفصيل ذلك في قوله: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4] الآية فبين جزاء عَماهم، وصَمَمهِم في المرة الأولى بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5]، وبين جَزاء عماهم، وصَمَمِهم في المرة الآخرة بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرا} [الإسراء: 7]، وبين التوبة التي بينهما بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]. ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَ} [الإسراء: 8] فعادوا إلى الإفساد بتكذيبه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم، وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير. كما ذكر تعالى طرفًا من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين، وكثير منهم لم يذكره، ولكن ظاهر القرآن يقتضيه، لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذيبهم، إذ قبل الآية المذكورة {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُون} [المائدة: 70].
ومعنى {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله، بسبب كُفرهم، وقتلهم الأنبياء، لزعمهم الباطل، أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وقوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} أحسن، أوجه الإعراب فيه. أنه بدل من واو الفاعل في قوله: {عَمُوا وَصَمُّوا}، كقولك: جاء القوم أكثرهم، وقوله: {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قرأه حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فوجه قراءة النصب ظاهر، لأن الحسبان بمعنى الظن، ووجه قراءة الرفع، تنزيل اعتقادهم لذلك- ولو كان باطلًا- منزلة العلم. فتكون أن مخففة من الثقيلة، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عطية:

المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى: {ثم تاب الله عليهم} قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدًا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيرًا منهم لأن منهم قليلًا آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى: {والله بصير بما يعملون}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فيها ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنها العقوبة التي تنزل من السماء.
والثاني: ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم.
والثالث: ما بلوا به من جهة المتغلبين عليهم من الكفار.
{فَعَمُواْ وَصَمُّوا} يعني، فعموا عن المرشد وصموا عن الموعظة حتى تسرعوا إلى قتل أنبيائهم حين حسبوا ألا تكون فتنة.
{ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني أنهم تابوا بعد معاينة الفتنة فقبل الله توبتهم.
{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} يعني أنهم عادوا بعد التوبة إلى ما كانوا عليه قبلها، والعود إنما كان من أكثرهم من جيمعهم. اهـ.