فصل: من لطائف القشيري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}.
داروا مع الهوى فوقعوا في البلاء. ومِنْ أمارات الشقاء الإصرارُ على متابعة الهوى، وحسبوا ألا تكون فتنة، فعموا وصموا. واغتروا بطول الإمهال فأصروا على قبيح الأعمال، فلما أَخَذَتْهم فجاءةُ الانتقام لم ينفعهم الندم، وبَرَّحَ بهم الألم. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {تكون} بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {تكون} بالرفع، ولم يختلفوا في رفع {فتنة}.
قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «إن» مخفّفة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء» وجعل {حسبوا} بمعنى: أيقنوا، لأن «إن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين.
والتقدير: أنه لا تكون فتنة.
ومن نصب جعل «إن» هي الناصبة للفعل، وجعل {حسبوا} بمعنى: ظنوا.
ولو كان قبل «إن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله: {أفلا يرون ألا يرجع إِليهم} [طه: 89] و{علم أن سيكون} [المزمل: 20] وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن، وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «إن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله: {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} [النور: 25] {ألم يعلم بأن الله يرى} [العلق: 14] وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «إن» الخفيفة، كقوله: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله} [البقرة: 229] {تخافون أن يتخطفكم الناس} [الأنفال: 26] {فخشينا أن يرهقهما} [الكهف: 80] {أطمع أن يغفر لي} [الشعراء: 82] وما كان مترددًا بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في {وحسبوا ألا تكون فتنة} قد جاء بها التنزيل.
فمثل مذهب من نصب {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم} [الجاثية: 21] {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت: 4] {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] ومثلُ مذهب مَنْ رفع {أيحسبون أنما نمدّهم} [المؤمنون: 55] {أم يحسبون انا لا نسمع سرهم} [الزخرف: 80].
قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذبيهم الرسل.
قوله تعالى: {فعموا وصموا} قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا، ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصمّ.
قوله تعالى: {ثم تاب الله عليهم} فيه قولان:
أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل.
وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} [الاسراء: 6].
والثاني: أن معنى {تاب عليهم}: أرسل إِليهم محمدًا يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج.
وفي قوله: {ثم عموا وصموا} قولان:
أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل.
والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {كثيرٌ منهم} أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما تقول: جاءني قومُك أكثرُهم.
قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يُبعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث كذبوه بغيًا وحسدًا، وقدَّروا أن هذا الفعل لا يكون مُوبقًا لهم، وجانيًا عليهم، فقال الله تعالى: {وحسبوا أن لا تكون فتنة} أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق.
{ثم تاب الله عليهم} أي: عرَّضهم للتوبة بأن أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.من فوائد الرازي في الآية:

قرئ: {عموا وصموا} بالضم على تقدير: عماهم الله وصمهم الله، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك، وهو رمح قصير، وركبته إذا ضربته بركبتك. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب، وقرئ {لا تكونُ} بالرفع على أنّ أنْ هي المخففة من أنّ، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وأصله أنه لا تكون فتنةٌ، وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و«أن» بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه.
{فَعَمُواْ} عطف على {حسِبوا} والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة {وَصَمُّواْ} عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء، وقيل: حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل، فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهرًا طويلًا تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكًا عظيمًا من ملوك فارسَ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكناف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسنَ ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسُفَ ألقى الله عز وجل في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} وأما ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقام ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر أحوالهم من الحُسبان والعمَى والصمم تجافيًا عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيدًا لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره، فإن فنون الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم هاهنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب، وقرئ {عُموا وصُمّوا} بالضم على تقدير أعماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك، وقوله تعالى: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم.
{والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل، والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا، إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلًا على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ، والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها؟ ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل؟ ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل، وقيل: جالوتَ الجزري، وقيل: سنجاريبَ من أهل نينوى، والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفًا ممن يقرأ التوراة، وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكون من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة، فردهم الله عز وجل إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال، ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد، فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود، وقيل: خيدروس، ففعل بهم ما فعل، قيل: دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينهم فوجد فيه دمًا يغلي فسألهم، فقالوا: دمُ قربانٍ لم يقبل منا، فقال: ما صَدَقوني، فقتل عليه ألوفًا منهم، ثم قال: إن لم تصدُقوني ما تركت منكم أحدًا، فقالوا: إنه دمُ يحيى عليه السلام، فقال: بمثل هذا ينتقم الله منكم، ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل ألا أبقيَ أحدًا منهم، فهدأ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا}.
«وحسب» إن كانت بفتح الحاء وكسر العين فمعناها الظن، وإن كانت بفتح الحاء وفتح السين فبمعنى «عد»، والحسبان هو أن تظن وترجع وجود الشيء. والذين أخذ الله عليهم الله الميثاق وهم- بنو إسرائيل- ظنوا أن تكذيب الرسل وقتلهم لا يكون فتنة. ويعني أنهم لم يعلموا علم اليقين، وقد رجحوا ألا تكون فتنة. والأصل في الفتنة- كما نعرف- هي الاختبار، إما أن ينجح فيه الإنسان وإما ألاّ ينجح. فكيف جاءهم الظن أن هذا ليس اختبارًا؟ لقد جاءهم هذا الظن من الخطأ الذي وقعوا فيه عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18].
والخطأ الذي تمادوا فيه عندما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
لقد ظنوا أن الحق سيعاقبهم فقط على عبادة العجل ولن يعاقبهم على أي شيء آخر. وكان هذا ظنًا خاطئًا. إن المنهج لم يأت لينجي أناسًا بذواتهم مهما فعلوا، ولكن المنهج جاء ليحاسب كل إنسان حسب ما عمل. ومن العجيب أنهم ظنوا الظن الخاطئ ولم يقوموا بحساب الأمر بحسابه الصحيح على الرغم من أنهم أهل تفوق في العد والحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة أمر أو يكذبه. ومن العجيب أن من رحمة الحق بالخلق ساعة يؤاخذهم فهو يقول: لك كذا وعليك كذا. لكن ساعة يرزقهم فهو يرزقهم بغير حساب.
ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك وقال عنهم الحق: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أن ذلك الأمر لا اختبار فيه وأنهم غير محاسبين عليه. ونعرف أن «أَنْ» تنصب الفعل. وقال لي سائل: لقد سمعت قارئ القرآن في المذياع ينطقها {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}.
وقلت له: إن هناك ثلاثة من أكابر القراء في صدر الإسلام هم: «أبو عمرو» و«حمزة» و«الكسائي»، وكان لكل منهم أسلوب متميز. وعندما نعلم أن «أنْ» تنصب الفعل لابد أن يكون الفعل الذي يليها لا يدل على العلم واليقين والتبين، «فأن» بعد العلم لا تنصب، كقوله الحق: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} [المزمل: 20].