فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وألفية ابن مالك تقول:
وبلن انصبه وكي ** كذا بِأَنْ لا بعد علم

أما «أن» التي من بعد ظن فمن الممكن أن تنصب ومن الممكن أن يُرفع الفعل بعدها، فالذي رجح وجود الفعل وأدركه إدراكًا راجحا يرفع، والذي لم يكن لديه هذا الإدراك الراجح ينصب، والرفع هو قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. فقد بنوا الأمر على أنَّ الرجحان يقرب من اليقين. وما دام قد حدث ذلك تكون «أَنْ» هنا هي «أن» المؤكدة، لا «أن» الناصبة ويسمونها أن المخففة من الثقيلة فأصلها أنّ.
{وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}. وتأتي {فتنة} بالرفع لأنها اسم تكون. و{تكون} من كان.
و«كان» لها اسم مرفوع وخبر منصوب. وهي هنا ليس لها خبر؛ لأنها مِن «كان التامة». فهناك «كان الناقصة» وهناك «كان التامة». ونقول ذلك حتى نتقن فهم القرآن، مثلما نقرأ قوله الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ..} [البقرة: 280].
و{كان} فعل ماضي، و{ذو عسرة} اسم كان التامة؛ لذلك لا خبر لها؛ لأن المقصود هو القول: وإن وُجِد ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة. ولابد لنا أن نعرف ما معنى «تام» وما معنى «ناقص»؟ نعلم أن كل لفظ ننطق به ويدور حول أمرين اثنين، إما لفظ مهمل وغير مستعمل وإمّا لفظ مستعمل. والمستعمل هو الذي له معنى يصل إلى الذهن ساعة نطقه ويستقل به الفهم، فإن كان لا دخل للزمن فيه فهو الاسم ككلمة «أرض» و«شمس» و«قمر». وهناك لفظ لا يستقل بالفهم كحرف الجر «في» مثلًا. صحيح أنه يدل على شيء في شيء؛ ولكنه لا يستقل بالفهم؛ لذلك لابد أن ينضم لشيء، كقولنا: الماء في الكوب أو قولنا: التلميذ في الفصل. فإذا كان للفظ معنى ومستقل بالفهم، والزمن له دخل فيه فهو الفعل.
مثال ذلك قولنا: السماء. إن السماء كانت في الماضي وهي في الحاضر وهي في المستقبل. إذن فالزمن لا دخل له بها، وكلمة: كلُوا نجدها تأتي من الأكل، وهي معنى مستقل بالفهم والزمن جزء منه. ولفظ «في» يدل على معنى غير مستقل بالفهم فلابد من أن ينضم لشيء آخر.
إذن كل لفظ له معنى، وهذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل، فإن كان مستقلًا بالفهم فإننا نسأل: هل الزمن جزء منه؟ وفي هذه الحالة يكون «فعلًا» وإن لم يكن الزمن جزء منه فهو الاسم. وإن كان غير مستقل بالفهم ويريد شيئًا آخر ليستقيم المعنى فهو «حرف».
وهكذا تعرف الألفاظ. والفعل هو «معنى زائد عليه زمن» كقولنا: أكل؛ فهي تعني تناول إنسان طعامًا في زمن ماضٍ، وهكذا نفهم قولنا: «كان». فإن قلنا: «كان» بمعنى حدوث شيء في الماضي، كقولنا «كان زيد مسافرًا» فهي ناقصة. وفي ضوء هذا نفهم قول الحق: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
فإن أردت الوجود فقط من غير شيء جديد طارئ عليه، فالفعل يكون تامًا لا يحتاج إلى خبر.
وإن أردت الوجود مع أي شيء آخر فهو الفعل الناقص الذي تكمله بخبر. مثل قوله تعالى: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ألا توجد فتنة، فهي لا تحتاج إلى خبر.
وكان مثل بني إسرائيل كمثل التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة ولا يعلم أن فيها اختبارًا آخر العام فيُمضي الوقَت في تحصيل ولا جد ولا اجتهاد بل في لهو ولعب، وكان هذا حسبانًا خاطئًا؛ لأن المنهج لم يأت اعتباطًا، ولكنه جاء كنظام حركة للحياة ليعمله المؤمن. وكان المفروض أن يستقبلوا المنهج على حسب تعاليم المنهج. ومن العجيب أنهم ظنوا ولم يحسبوا بالحساب على الرغم من أنهم أهل علم بالحساب، فهم حسبوا- بكسر السين- وما حسبوا- بفتح السين- وكان المفروض أن يقوموا بالحساب، فالحساب هو الذي يضمن صحة المسائل.
وكل شيء عند الله يكون بالحساب، حساب للعبد وحساب على العبد. {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي ظنوا أنها ليست اختبارًا. وظنوا أن الرسالات والمناهج هي مسألة لا اختبار لهم فيها، فلما عرفوا تعاموا عن ذلك وصموا آذانهم عنه. ونعلم أن وسائل الإدراك في النفس البشرية هي السمع والأَبْصار والأفئدة: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إذن فوسائل الإدراك: سمع، وبصر، وفؤاد. وما تراه العين هو تجربة الإنسان بنفسه. أما ما يسمعه الإنسان فهو تجربة كل غير له. وبذلك يكون السمع اكثر اتساعًا من العين. والسمع هو وسيلة الإدراك التي توجد أولًا في الإنسان حين يولد. ونجد المولود لا يهتز عندما يقترب شيء من عينيه؛ لأنه لا يرى بدقة وقد يستمر ذلك لمدة عشرة أيام ومن بعد ذلك يبدأ في الرؤية. لكن الطفل إذا سمع صوتًا بجانب أذنيه ينفعل، كأن حاسة السمع هي التي توجد أولًا، ولذلك يأتي لنا الحق بذك السمع أولًا ومن بعد ذلك الأبصار ثم الأفئدة.
{فعموا وصموا} وهو سبحانه يسألهم أولًا عن التجربة الشخصية فيهم. ولم يسألهم عن الذي سمعوه عن غيرهم فقط، {فعموا} أي لم يروا حتى الأمور المتعلقة بهم، ولم ينظروا في آيات الكون ولم يسمعوا البشير ولا النذير ولا المنهج من الله ولا اتفقوا على تنفيذه. وسبحانه يعاتبهم أولًا أنهم لم يستعملوا عيونهم. وحتى لو افترضنا أنهم لم يروا آيات الكون بأنفسهم فما بالهم لا ينظرون وقد جاءهم الرسول ودعاهم لينظروا في كون الله وأن يعتبروا.
فإذا كانوا أولًا في غفلة فلم يروا، فلماذا لم ينتبهوا ويسمعوا سماع إذعان وانقياد عندما جاءهم البشير والنذير لينبههم؛ لذلك {فعموا وصموا} منطقية جدًا هنا.
وبعد ذلك قبل الله منهم، وأنجاهم من فرعون وفلق لهم البحر، وعبروا، ولكنهم بمجرد خروجهم من البحر، ومروا على قوم يعكفون ويلزمون ويقبلون على أصنام لهم يعبدونها.
قالوا لموسى: نريد إلهًا كما لهم آلهة. وأمرهم موسى أن يتوبوا وقبل الله توبتهم. مع كثرة ما ارتكبوا من ذنوب. ومن بعد ذلك يتوب الله عليهم. {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}.
والتوبة هي فتح مجال للنفس السوية لتنطلق في الخير من جديد، فلو لم يتب الله على من أذنب فماذا يكون موقف المذنب بلا توبة؟ إنه يتمادى ويحس أنه ذاهب في طريق الشر بلا عودة. وحين يقبل الحق توبة المذنب، فذلك معناه أنه سبحانه يريد أن يحمي المجتمع من شره. والتوبة مراحل: الأولى: حين يشرع الله التوبة، والثانية: أن يتوب العبيد، والثالثة: هي قبول الله للتوبة. وهذا ما جاء به الحق: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118].
ماذا تعني توبة الله عليهم؟ سبحانه لن يتوب عليهم توبة القبول إلا بعد أن يتوبوا. إذن فتوبة الله عليهم الأولى هي التشريع لهم بالتوبة، ثم توبتهم، ثم قبول الحق للتوبة. لكن هؤلاء عموا وصموا، وعلى الرغم من ذلك لطف الله بهم. فماذا حدث منهم بعد ذلك؟ عموا وصموا مرة أخرى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
و{عموا} مأخوذة من الفعل «عمى»، ومثلها مثل «أكلوا» و«شربوا» و«حضروا»، فأين الفاعل؟ الفاعل هو «واو الجماعة». وابن مالك قعّد لهذه المسألة، فساعة تسند الفعل إلى اثنين أو إلى جماعة، فلابد أن تجرد الفعل من علامة التثنية أو الجمع، فلا تقول: «قاما زيد وعمرو» ولكن تقول: «قام زيد وعمرو»، ولا نقول: «قاموا التلاميذ» بل نقول: «قام التلاميذ»، لأن مدلول «الواو» هو مدلول «التلاميذ»؛ قال ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسندا ** لاثنين أو جمع ك «فاز الشهدا».
أي أن الفعل إذا أسند لمثنى أو مجموع وجب تجريده من العلامة التي تدل على التثنية أو على الجمع. أما كلمة كثير فتعرب إما على أنها البدل من واو الجماعة، وإما على إضمار مبتدأ أي العُمْىُ والصُّم كثير منهم، وإما على أنها فاعل ويكون ذلك قد جاء على لغة طائفة من العرب وهم بنو الحارث بن كعب، وهؤلاء قد يأتون بعلامة تدل على التثنية أو الجمع إذا أسند الفعل إلى اسم ظاهر مثنى أو مجموع مثل: قاموا الرجال وسافرا محمد وعلي.
وحمل بعضهم قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} على هذا، وكان قول الحق: {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} صيانة للاحتمال بأن قلة منهم تدير أمر الإيمان في قلوبهم، وكلمة {كثير} جاءت حتى تنبه إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يهمل أبدًا القلة التي تدير أمر الإيمان في خواطرهم. ليؤكد ويعاضد ما جاء في قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} و{بصير} مثلها مثل «عليم»، أي شاهد وليس مع العين أين. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو {تَكونُ} برفع النون، والباقون بنصبها، فمنْ رفع ف «أن» عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ، تقديرُه، أنهُ، و«لاَ» نافية، و{تَكُونُ} تامة، و{فِتْنَةٌ} فاعلها، والجملةُ خبر «أن»، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا، ف «حَسِبَ» هنا لليقين، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر: [الطويل]
حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ ** رَبَاحًا إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا

أي: تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ «أن» المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ، فأمَّا قوله: [البسيط]
أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا ** وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ

فظاهرُه: أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها، وقد وقعت بعد «أرْجُو» و«آمُلُ» وليسا بيقينٍ، والجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّ «أن» ناصبةٌ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلًا على «مَا» المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفَةً، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233]؛ وكقوله: [البسيط]
يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا ** وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا

أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا ** تَسْتوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا

أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ** مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا

فقوله: «أنْ تَقْرآنِ» بدلٌ من «حَاجَة»، وقد أهْمَلَ «أن»؛ ومثلُه قوله: [مجزوء الكامل]
إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ** قَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ

وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ ** ومِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح

أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ ** مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ

وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما: إمَّا إهمالُ «أن»، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ، وعدمُ الفصل بينها، وبين الجملة الفعليَّة.
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك.
وأما قول الشاعر: [الخفيف]
عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا ** قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ

فالظاهرُ أنها المخفَّفة، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ، وشذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ، وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذَانِ: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حَمْلًا على «مَا» أختِها.
وجاءَ هنا على الواجب- عند بعضهم- أو الأحسنِ- عند آخرين- وهو الفصلُ بين «أن» الخفيفةِ وبين خبرها، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفي كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} [المزمل: 20]، ومثله: «عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ»، وإمَّا «قَدْ»؛ كقوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]، وإمَّا «لَوْ»- وهي غريبةٌ-؛ كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} [سبأ: 14].