فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإله رفع على البدل من إله على الموضع.
وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ، لأنه يجيز زيادة من في الواجب، والتقدير: وما إله في الوجود إلا إله واحد أي: موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.
{وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} أي عما يفترون ويعتقدون في عيسى من أنه هو الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أوعدهم بإصابة العذاب الأليم لهم في الدنيا بالسبي والقتل، وفي الآخرة بالخلود في النار، وقدم الوعيد على الاستدلال بسمات الحدوث إبلاغًا في الزجر أي: هذه المقالة في غاية الفساد، بحيث لا تختلف العقول في فسادها، فلذلك توعد أوّلًا عليها بالعذاب، ثم اتبع الوعيد بالاستدلال بسمات الحدوث على بطلانها.
وليمسنّ اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط، وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم} ونظير هذه الآية: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ومثله: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} ومعنى مجيء إن بغير باء، دليل على أنه قبل إنْ قسم محذوف إذ لولا نية القسم لقال: فإنكم لمشركون الذين كفروا أي: الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد.
وأقام الظاهر مقام المضمر، إذ كان الربط يحصل بقوله: ليمسنهم، لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: لقد كفر وللإعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر، إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغًا من ثبوتها، واستقرارها لهم ومن في منهم للتبعيض، أي كائنًا منهم، والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر، بل قد تاب كثير منهم من النصرانية.
ومن أثبت أنّ مَن تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا، ونظره بقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} شروع في بيان كفر طائفةٍ أخرى منهم، ومعنى قولهم: ثالثُ ثلاثةٍ ورابع أربعة ونحو ذلك أحدُ هذه الأعداد مطلقًا لا الثالثُ والرابعُ خاصة، ولذلك منع الجمهور أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال: ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً، وإنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة، كما في قولك: عاشرٌ تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً، قيل: إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم، وكلُّ واحد من هؤلاء إله، ويؤكده قوله تعالى: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ} فقوله تعالى: {ثالث ثلاثة} أي أحد ثلاثةِ آلهة، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} أي والحال أنه ليس في الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة، و«من» مزيدة للاستغراق، وقيل: إنهم يقولون: الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ، أقنومُ الأب وأقنومُ الابن وأقنومُ روح القدس، وإنهم يريدون بالأول الذات وقيل: الوجود، وبالثاني العِلْم، وبالثالث الحياة، فمعنى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} إلا إله واحد بالذات، منزه عن شائبةِ التعدد بوجهٍ من الوجوه.
{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا، وقوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ} جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسد جواب الشرط، أي وبالله إن لم ينتهوا ليمسنهم، وإنما وُضع موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن، في قوله تعالى: {مِنْهُمْ} بيانية، أي ليمسن الذين بقُوا منهم على ما كانوا عليه من الكفر فمن تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهًا على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع عن نص عيسى عليه السلام وغيره كفرٌ جديد وغلوٌّ زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي نوع شديد الألم من العذاب. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة}.
شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، و{ثالث ثلاثة} لا يكون إلا مضافًا كما قال الفراء، وكذا رابع أربعة ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلًا جاز الأمران: الإضافة والنصب.
وقد نص على ذلك الزجاج أيضًا، وعنوا بالثلاثة على ما روى عن السدي الباري عز اسمه وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام: {قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ} [المائدة: 116]، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة لأنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية كما يدل عليه برهان التمانع فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟ا و{مِنْ} مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل «من» الإبتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل: لا من رجل إلى ما لا نهاية له.
وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل إنهم يقولون الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وأقنوم الإبن وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول: الذات، وقيل: الوجود.
وبالثاني: العلم.
وبالثالث: الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه.
{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه وهو التوحيد والإيمان {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط على ما قاله أبو البقاء والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر كما اختاره الجبائي والزجاج وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و{مِنْ} على هذا بيانية، وعلى الأول: تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهًا على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ورد مما يقتضي القلع عنه كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة}.
استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النّصارى، وهي مقالة «المَلْكَانِيَّةِ المُسَمَّيْن بالجِعاثليقِيَّة»، وعليها معظم طوائف النّصارى في جميع الأرض.
وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة} من سورة النّساء (171)، وأنّ قوله فيها: {ولا تقولوا ثلاثة} يجمَع الردّ على طوائف النّصارى كلّهم.
والمراد بـ {قالوا} اعتقدوا فقالوا، لأنّ شأن القول أن يكون صادرًا على اعتقاد، وقد تقدّم بيان ذلك.
ومعنى قولهم: {إنّ الله ثالث ثلاثة} أنّ ما يعرفُه النّاسُ أنّهُ اللّهُ هو مجموع ثلاثةِ أشياء، وأنّ المستحقّ للاسم هو أحد تلك الثّلاثة الأشياء.
وهذه الثّلاثة قد عبّروا عنها بالأقانِيم وهي: أقنوم الوجود، وهو الذات المسمّى الله، وسمّوه أيضًا الأبَ؛ وأقنوم العِلم، وسمَّوه أيضًا الابنَ، وهو الّذي اتّحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلهًا؛ وأقنوم الحياة وسَمَّوه الرّوحَ القُدُس.
وصار جمهورهم، ومنهم الرَّكُوسية طائفة من نصارى العرب، يقولون: إنّه لمّا اتّحد بمريم حينَ حمْلها بالكلمة تألَّهَتْ مريم أيضًا، ولذلك اختلفوا هل هي أمّ الكلمة أم هي أمّ الله.
فقوله: {ثالث ثلاثة} معناه واحد من تلك الثّلاثة، لأنّ العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة، صيغة فاعِل مضافًا إلى اسم العدد المشتقّ هُو منه لإرادة أنّه جزء من ذلك العَدد نحو {ثاني اثنين} [التوبة: 40]، فإن أرادوا أنّ المشتقّ له وزنُ فاعل هو الّذي أكْمَلَ العدد أضافوا وزنَ فاعل إلى اسم العدد الّذي هو أرقَى منه فقالوا: رابِعُ ثلاثة، أي جَاعل الثلاثة أربعة.
وقوله: {وما من إله إلاّ إله واحد} عطف على جملة {لقد كفر} لبيان الحقّ في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل.
ويجوز جعل الجملة حالًا من ضمير {قالوا}، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفًا للواقع، فيكون كالتّعليل لكفرهم في قولهم ذلك، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحقّ أن يكون غير واحد فإنّ «من» لتأكيد عموم النّفي فصار النّفي بـ {ما} المقترنة بها مساويًا للنّفي بـ «لا» النّافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصًّا.
وعدل هنا عن النّفي بلا التبرئة فلم يُقل «ولا إله إلاّ إله واحد» إلى قوله: {وما من إله إلاّ إله واحد} اهتمامًا بإبراز حرف «من» الدالّ بعد النّفي على تحقيق النّفي، فإنّ النّفي بحرف «لا» ما أفاد نفي الجنس إلاّ بتقدير حرف «من»، فلمّا قصدت زيادة الاهتمام بالنّفي هنا جيء بحرف «ما» النّافية وأظهر بعده حرف «من».
وهذا ممّا لم يتعرّض إليه أَحدٌ من المفسّرين.
وقوله: {إلاّ إله واحد} يفيد حصر وصف الإلهيّة في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم.
وأمّا تعيين هذا الواحد مَن هو، فليس مقصودًا تعيينه هنا لأنّ القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث، وثبتت الوحدانيّة تعيّن أنّ هذا الواحد هو الله تعالى لأنّه متّفق على إلهيّته، فلمّا بطلت إلهيّة غيره معه تمحّضت الإلهيّة له فيكون قوله هنا {وما من إله إلاّ إله واحد} مساويًا لقوله في سورة آل عمران (62) {وما من إله إلاّ الله}، إلاّ أنّ ذكر اسم الله تقدّم هنا وتقدّم قول المبطلين «إنّه ثالث ثلاثة» فاستغني بإثبات الوحدانيّة عن تعيينه.
ولهذا صرّح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران (62) في قوله تعالى: {وما من إله إلاّ الله} إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهيّة في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدّد الآلهة.
وقوله: {وإن لم ينتهوا عمّا يقولون لَيَمَسَّنّ الّذين كفروا منهم عذاب أليم} عطف على جملة {لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة}، أي لقد كفروا كفرًا إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم.
ومعنى {عمّا يقولون} أي عن قولهم المذكور آنفًا وهو {إنّ الله ثالث ثلاثة}.
وقد جاء بالمضارع لأنّه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنّما يكون عن شيء مستمرّ كما ناسب قوله: {قَالوا} قوله: {لقد كفر}، لأنّ الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزّمن الماضي.
ومعنى {عمّا يقولون} عمّا يعتقدون، لأنّهم لو انتهوا عن القول باللّسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك، فلمّا كان شأن القول لا يصدر إلاّ عن اعتقاد كان صالحًا لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصّريح.
وأكّد الوعيد بلام القسم في قوله: {ليمسّنّ} ردًّا لاعتقادهم أنّهم لا تمسّهم النّار، لأنّ صلب عيسى كان كفّارة عن خطايا بني آدم.
والمسّ مجاز في الإصابة، لأنّ حقيقة المسّ وضع اليد على الجسم، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتّصال، كقوله تعالى: {والّذين كذّبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون} [الأنعام: 49]، فهو دالّ على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدّة أو ضعف، وإنّما يُرجع في الشدّة أو الضعف إلى القرينة، مثل {أليم} هنا، ومثل قوله: {بما كانوا يفسقون} [الأنعام: 49] في الآية الأخرى، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة:
مَسِسْنَا من الآباء شيئًا وكُلُّنا ** إلى حسب في قومه غيرِ واضع

أي تتبّعنا أصول آبائنا.
والمراد بـ {الّذين كفروا} عينُ المراد بـ {الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة} فعُدل عن التّعبير عنهم بضميرهم إلى الصّلة المقرّرة لمعنى كفرهم المذكور آنفًا بقوله: {لقد كفر الّذين قالوا} إلخ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئًا إلى سبب الحكم المخبر به عنه.
وعلى هذا يكون قوله: {مِنْهم} بيانًا للّذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهّم السامع أنّ هذا وعيد لكفّار آخرين. اهـ.