فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر، وطمس على يد موسى.
وإن خلقه من غير ذكر، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضًا إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي.
فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟
مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه.
ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسمًا مركبًا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الآية، تصدق، وقال مقاتل: إنما سميت صديقة لأنها لما أتاها جبرئيل، وهي في منجم وقال لها: إنما أنا رسول ربك صدّقته.
{كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} في هذا المعنى هذا عبارة عن الحدث ومن أكل وأحدث لا يستحق أن يكون إلهًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

{مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلاَّ رَسُولٌ} يعني: هو رسول كسائر الرسل، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} وهو من جماعة الرسل، {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} شبه النبيين، وذلك حين صدقت جبريل حين قال لها: {قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لًاهَبَ لَكِ غلاما زَكِيًّا} [مريم: 19] والصديق في اللغة هو المبالغ في التصديق.
وقال في آية أخرى: {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} يعني: المسيح وأمه كانا يأكلان ويشربان.
ومن أكل وشرب، تكون حياته بالحيلة، والرب: لا يأكل ولا يشرب.
ويقال: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} كناية عن قضاء الحاجة.
لأن الذي يأكل الطعام.
فله قضاء الحاجة.
ومن كان هكذا لا يصلح أن يكون ربًّا. اهـ.

.قال ابن عطية:

أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله، و{خلت} معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي {قد خلت من قبله رسل} بتنكير الرسل، وكذلك قرأ {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} [آل عمران: 144] وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك، وقوله تعالى: {وأمه صديقة} صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم.
وقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} تنبيه على نقص البشرية على حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره، ثم أمر تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} ابتداء وخبر؛ أي ما المسيح وإن ظهرت الآيات على يديه فإنما جاء بها كما جاءت بها الرسل؛ فإن كان إلها فليكن كل رسول إلها؛ فهذا ردّ لقولهم واحتجاج عليهم، ثم بالغ في الحجة فقال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} ابتداء وخبر {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} أي أنه مولود مربوب، ومن ولدته النساء وكان يأكل الطعام مخلوق محدث كسائر المخلوقين؛ ولم يدفع هذا أحد منهم، فمتى يصلح المربوب لأن يكون ربًا؟! وقولهم: كان يأكل بناسوتِهِ لا بِلاهوته فهذا منهم مصير إلى الاختلاط، ولا يتصور اختلاط إله بغير إله، ولو جاز اختلاط القديم بالمحدث لجاز أن يصير القديم محدثًا، ولو صح هذا في حق عيسى لصح في حق غيره حتى يُقال: اللاهوت مخالط لكل محدث.
وقال بعض المفسرين في قوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} إنه كناية عن الغائط والبول.
وفي هذا دلالة على أنهما بشران.
وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}.
قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صِدّيقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام؛ وقد مضى في «آل عمران» ما يدل على هذا. والله أعلم.
وإنما قيل لها صدّيقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به؛ عن الحسن وغيره.والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} يعني أن المسيح رسول من الله عز وجل ليس بإله كما أن الرسل الذين كانوا من قبله لم يكونوا آلهة وقد أتى عيسى عليه السلام بالمعجزات الدالة على صدقه كما أن الذين من قبله أتوا بالمعجزات الدالة على صدقهم {وأمه صديقة} يعني أنها كثيرة الصدق وقيل: سميت مريم صديقة، لأنها صدقت بآيات ربها وكتبه.
وقوله تعالى: {كانا يأكلان الطعام} في احتجاج على فساد قول النصارى بإلهية المسيح.
يعني: أن المسيح وأمه مريم كانا بشرين يأكلان الطعام ويعيشان به كسائر بني آدم، فكيف يكون إلهًا مَنْ يحتاج إلى الطعام ولا يعيش إلا به؟ وقيل: معناه أنه لو كان إلهًا كما يزعمون لدفع عن نفسه ألم الجوع وألم العطش ولم يوجد ذلك فكيف يكون إلهًا وقيل هذا كناية عن الحدث وذلك أن كل من أكل وشرب لابد له من الغائط والبول ومن كانت هذه صفته فكيف يكون إلهًا؟
وبالجملة فإن فساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج إلى إقامة دليل عليه. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} فِيهِ أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي أَنَّ الْمَسِيحَ إلَهٌ؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعَامِ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الْعِبَادِ فِي الْحَاجَةِ إلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ؛ إذْ كَانَ مَنْ فِيهِ سِمَةُ الْحَدَثِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا، وَمَنْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ قَادِرًا لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} إنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحَدَثِ لَا مَحَالَةَ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا يَحْتَاجُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِمَا مِنْ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى حَدَثِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمَا وَعَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ تَتَعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ إلَهًا وَقَدِيمًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي: مؤمنة به مصدقة له. وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، [قالوا] وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك.
وقوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي: يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح: {اعبدو الله ربي وربكم} والثاني بقوله: {وما من إله إلا إله واحد} أثبت له الرسالة بصورة الحصر، أي ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلهًا وكونه أحد آلهة ثلاثة، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق البحر، وطمس على يد موسى، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى.
وفي قوله: إلا رسول رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة، وحيث ادعوا أنه ليس لرشده.
وقرأ حطان: من قبله رسل بالتنكير.
{وأمه صدِّيقة} هذا البناء من أبنية المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير، وشريب وطبيخ، من سكت وسكر، وشرب وطبخ.
ولا يعمل ما كان مبنيًا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال، فلا يقال: زيد شريب الماء، كما تقول: ضراب زيدًا، والمعنى: الإخبار عنها بكثرة الصدق.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من التصديق، وبه سمي أبو بكر الصديق.
ولم يذكر الزمخشري غير أنه من التصديق.
وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء.
قال الزمخشري: وأمه صديقة أي وما أمه لا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين: أحدهما نبي، والآخر صحابي، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه انتهى.
وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه، من ذلك أن قوله: وأمه صديقة ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق، وجعله هو من باب الحصر فقال: وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه.
قال الحسن: صدقت جبريل عليه السلام لما أتاها كما حكى تعالى عنها: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} وقيل: صدقت بآيات ربها، وبما أخبر به ولدها.
وقيل: سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود.
وقيل: وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة.
قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين} ومن ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشرًا نبوته فقد كلمت الملائكة قومًا ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة: الأقرع، والأعمى، والأبرص. فكذلك مريم.
{كانا يأكلان الطعام} هذا تنبيه على سمة الحدوث، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية، لأنّ من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسمًا مركبًا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام، ولا حاجة تدعو إلى قولهم: كانا يأكلان الطعام كناية عن خروجه، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث.
والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله، قال تعالى: {وهو يطعِم ولا يطعَم} وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه، فليس مقصودًا من اللفظ مستعارًا له ذلك.
وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث، وأنهما مشاركان للناس في ذلك، ولا موضع لهذه من الجملة من الإعراب. اهـ.