فصل: فائدة في حقيقة الصديق والصدق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة في حقيقة الصديق والصدق:

قال العارف القاشاني قدس الله سرّه في لطائف الأعلام:
الصدّيق الكثير الصدق. كما يقال: سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك.
الصديق من الناس من كان كاملًا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علمًا وعملًا، قولًا وفعلًا وليس يعلو على مقام الصديقية إلاَّ مقام النبوّة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوة. قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [مريم: 58]. الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.
فالأول: هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطنٍ لا ينجيك فيه إلاّ الكذب. وصدق الأفعال: هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبيّ: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله. لأن كراهته لذلك دليل على أنه يجب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصدّيقين.
وصدق الأحوال: اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب بفرقة عن الحق بوجه.
وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.
قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسمًا مركبًا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقَرَمٍ وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلَّف مدبّر كغيره من الأجسام.
لطيفة:
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيًا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضًا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندًا ولا مكابرًا.
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.
وأما قول الخفاجيّ- ملخصًا كلام البيضاويّ- في سر ذلك: أنه تعالى بين أولًا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: {عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}. حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم. انتهى- فبعيدٌ.
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.
{انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم!: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.!
قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية، ولا يرعوون عن ذلك، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بيانًا لا يحوم حوله شائبة ريب، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة، وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...} الآيات.
يبدو من السياق- قبل هذا النداء وبعده- أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه.. ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء.. ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان.. ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.
ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين:
{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم..}.
وحينما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان.. بل ليسوا على شيء أصلًا يرتكن عليه! حينما كلف الرسول صلى الله عليه وسلم بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة، كانوا يتلون كتبهم؛ وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية؛ وكانوا يقولون: إنهم مؤمنون.. ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواجههم به، لم يعترف لهم بشيء أصلًا الا مما كانوا يزعمون لأنفسهم، لأن «الدين»، ليس كلمات تقال باللسان؛ وليس كتبًا تقرأ وترتل؛ وليس صفة تورث وتدعى. إنما الدين منهج حياة. منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير، والعبادة الممثلة في الشعائر، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج.. ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه، فقد كلف «الرسول» صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين؛ وليسوا على شيء أصلًا من هذا القبيل!
وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه. وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل- كما أخبر الله وهو أصدق القائلين- فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم: «سواء كان المقصود بقوله: {وما أنزل إليهم من ربهم} هو القرآن- كما يقول بعض المفسرين- أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود».. نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه.. فهم ليسوا على شيء- بشهادة الله سبحانه- حتى يدخلوا في الدين الاخير.. والرسول صلى الله عليه وسلم قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم؛ وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم؛ وإلا فما بلغ رسالة ربه.. ويا له من تهديد!
وكان الله سبحانه يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة، وبهذه الكلمة الفاصلة، ستؤدي إلى أن تزيد كثيرًا منهم طغيانًا وكفرًا، وعنادًا ولجاجًا.. ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يواجههم بها؛ وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والظلال والشرود بسبب مواجهتهم بها؛ لأن حكمته سبحانه تقتضي أن يصدع بكلمة الحق؛ وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق.
فيهتدي من يهتدي عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة:
{وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا فلا تأس على القوم الكافرين}.
وكان الله سبحانه يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة؛ ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج؛ ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانًا وكفرًا؛ فهم يستحقون هذا المصير البائس؛ لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق؛ ولا خير في أعماقها ولا صدق. فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق؛ ليظهر ما كمن فيها وما بطن؛ ولتجهر بالطغيان والكفر؛ ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين!
ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب- على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانًا وكفرًا.. فماذا نجد..؟
نجد أن الله سبحانه يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.. وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعًا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي. في المواضع الأخرى المتعددة.. فهم إذن لم يعودوا على «دين الله» ولم يعودوا أهل «دين» يقبله الله.
ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانًا وكفرًا.. ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة. ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها!
فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل- كما هو الحق والواقع- لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب.. أهل دين.. يستطيع «المسلم» أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين؛ كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم؛ حتى يعتبرهم المسلم «على شيء» وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف!
وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل- كما هو الحق والواقع- لم يكن لنا أن نحسب حسابًا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة، في هياجهم علينا، وفي اشتداد حربهم لنا، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه- كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس.
إن الله سبحانه لا يوجهنا هذا التوجيه. ولا يقبل منا هذا الاعتراف. ولا يغفر لنا هذا التناصر، ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه. لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر؛ ونختار في أمرنا غير ما يختار؛ ونعترف بعقائد محرفة أنها «دين» إلهي، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي.. والله يقول: إنهم ليسوا على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم.. وهم لا يفعلون!
والذين يقولون: إنهم مسلمون- ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم- هم كأهل الكتاب هؤلاء، ليسوا على شيء كذلك. فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء. والذي يريد أن يكون مسلمًا يجب عليه- بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته- أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه. وأن دعواهم أنهم على دين، يردها عليهم رب الدين. فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة؛ ودعوتهم إلى «الإسلام» من جديد هي واجب «المسلم» الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته. فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلامًا، ولا تحقق إيمانًا، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله، في أي ملة، وفي أي زمان!
وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك؛ ويقيموا كتاب الله في حياتهم؛ يملك «المسلم» أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين، عن «الدين» وعن «المتدينين».. فأما قبل ذلك فهو عبث؛ وهو تمييع، يقوم به خادع أو مخدوع!
إن دين الله ليس راية ولا شعارًا ولا وراثة! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء. تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة.. ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل؛ ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم.. وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير؛ لا يقدم عليه «مسلم» نظيف الضمير!
وعلى «المسلم» أن يجهر بهذه الحقيقة؛ ويفاصل الناس كلهم على أساسها؛ ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة. والله هو العاصم. والله لا يهدي القوم الكافرين..
وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله؛ ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة؛ ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته، بلا مجاملة ولا مداهنة.. فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تمامًا غير ما هم عليه.
يدعوهم إلى نقلة بعيدة، ورحلة طويلة، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم.. فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه.. {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة} وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم.. حين يفعل صاحب الدعوة هذا- مراعاة للظروف والملابسات، وحذرًا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم- فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه!