فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{قُلْ} أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي متجاوزين إياه، وتقديمه على قوله تعالى: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} لما مر مرارًا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، والموصول عبارةٌ عن عيسى عليه السلام، وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأسًا، ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلًا، وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من ذاته، ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصِّحة. وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع، ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر، ثم جلب الخير. وقوله تعالى: {والله هُوَ السميع العليم} حال من فاعل {أتعبدون} مؤكِّد للإنكار والتوبيخ، ومقرِّر للإلزام والتبكيت، والرابط هو الواو أي أتشركون بالله تعالى ما لا يقدر على شيء من ضُرِّكم ونفعكم، والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة، والعقائد الزائغة، والأعمال السيئة، وبالقدرة الباهرة على جميع المقدورات التي من جملتها مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة؟. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئًا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب، والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئًا لا استطاعة له أصلًا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: {مَا} نظرًا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسًا، وتنبيهًا على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلهًا، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى كالأصنام وغيرها فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرًا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3].
وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب فما على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارًا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر.
وقوله سبحانه وتعالى: {والله هُوَ السميع العليم} في موضع الحال من فاعل {أَتَعْبُدُونَ} مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أتعبدون العاجز والله هو الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وفرق بين الوجهين بأن {مَا} على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن {مَا} للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

لمّا كان الكلام السابق جاريًا على طريقة خطاب غير المعيّن كانت جملة {قل أتعبدون من دون الله} الخ مستأنفة، أمر الرّسول بأن يبلّغهم ما عنوا به.
والظاهر أنّ {أتعبدون} خطاب لجميع من يعبد شيئًا من دون الله من المشركين والنّصارى.
والاستفهام للتّوبيخ والتّغليط مجازًا.
ومعنى {من دون الله} غير الله.
فمِن للتّوكيد، و{دون} اسم للمغاير، فهو مرادف لسوى، أي أتعبدون معبودًا هو غير الله، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهيّة.
وليس المعنى أتعبدون معبودًا وتتركون عبادة الله.
وانظر ما فسّرنا به عند قوله تعالى: {ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله} في سورة الأنعام (108)، فالمخاطبون كلّهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتّى الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلاّ لزعمهم أنّ الله حلّ فيه فقد عبدوا الله فيه، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلَّهم.
ولذلك جيء بما الموصولة دون «من» لأنّ معظمَ ما عبد من دون الله أشياء لا تَعْقل، وقد غلب «ما» لما لا يعقل.
ولو أريد بـ {ما لا يَملك} عيسى وأمّه كما في الكشاف وغيره وجعل الخطاب خاصًّا بالنّصارى كان التّعبير عنه بـ {ما} صحيحًا لأنّها تستعمل استعمال «من»، وكثير في الكلام بحيث يكثر على التّأويل.
ولكن قد يكون التّعبير بمَن أظهر.
ومعنى {لا يملك ضَرًّا} لا يقدر عليه، وحقيقة معنى الملك التمكّن من التّصرف بدون معارض، ثم أطلق على استطاعة التّصرّف في الأشياء بدون عَجز، كما قال قَيس بن الخَطِيم:
مَلَكْتُ بها كفّي فأنْهَرَ فتقَها ** يرى قائم من دونها مَا وراءهَا

فإنّ كفّه مملوكة له لا محالة، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من كفّه تمام التّمكن فدفع به الرّمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفّه.
ومِن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القويّة الثّابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها {ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا} [الفرقان: 3] {قل لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا} [يونس: 49] {إنّ الّذين تعبدون من دون الله لا يَمْلكون لكم رزقًا} [العنكبوت: 17].
فقد تعلّق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات، وذلك لا يكون إلاّ على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القويّة ألا ترى إلى عطف نفي على نفي المِلك على وجه التّرقّي في قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يَملك رزقًا من السماوات والأرض شيئًا ولا يستطيعون} في سورة النّحل (73).
وقد تقدّم آنفًا استعمال آخر في قوله: {قل فمن يملك من الله شيئًا إن أرادَ أن يهلك المسيح ابن مريم} [المائدة: 17].
وقُدّم الضَرّ على النّفع لأنّ النّفوس أشدّ تطلّعًا إلى دفعه من تطلّعها إلى جلب النّفع، فكان أعظمَ ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أنّ يستدفعوا بها الأضرار بالنّصر على الأعداء وبتجنّبها إلحاق الإضرار بعابديها.
ووجه الاستدلال على أنّ معبوداتهم لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، وقوع الأضرار بهم وتخلّف النّفع عنهم.
فجملة {والله هو السميع العليم} في موضع الحال، قُصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل، سببُ النّجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهورِ الحالةِ، على الله تعالى قصرَ ادّعاء بمعنى الكمال، أي ولا يسمع كلّ دعاء ويعلم كلّ احتياج إلاّ الله تعالى، أي لا عيسى ولا غيره ممّا عُبِد من دون الله.
فالواو في قوله: {والله هو السّميع العليم} واو الحال.
وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق: طريقِ القصر وطريقِ ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}.
تعليقُ القلوب- بدون الرب- في استدفاع الشر واستجلاب الخير تمحيق للوقت فيما لا يُجْدِي، وإذهابٌ للعمر فيما لا يُغْني؛ إذ المتفردُ بالإيجاد بريءٌ عن الأنداد. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}.
والعقل يستنكر أن نعبد أحدًا غير الله، فغيره لا يملك أن يصنع الضر للخصوم، ولا النفع لنفسه أو لأشياعه وأنصاره بدليل أن الأعداء فعلوا ما فعلوه وما ملك عيسى عليه السلام أو الحواريون أن يضروهم ولا استطاعوا أن يفعلوا شيئًا ينفعون به أنفسه.
ويختم الحق الآية بقوله: {والله هُوَ السميع العليم}. وكلمة {السميع} تدل على قول. وكلمة {العليم} تدل على شيء يدور في الخواطر، والشيء الذي يدور في الخواطر أهو حراسة سلطة زمنية جعلتهم يقولون هذا الكلام؟ إنه سبحانه العليم بذلك. فإن كان قد حصل كلام فهو قد سمعه، وإن كانت قد دارت خواطر في النفس فهو يعلمها؛ لأن العاقل قبل أن يتكلم لابد أن يدير الكلام في النفس. وكل كلام لابد له من نزوع. وهو سبحانه السميع العليم أزلا وأبدًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {مَا لاَ يَمْلِكُ}: يجوزُ أن تكون {مَا} بمعنى «الَّذِي»، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ، فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، وفي وقوع «مَا» على العاقلِ هنا؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ:
أحدها: أنه أُتِي بـ «مَا» مرادًا بها العاقلُ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء، كذا قاله سيبويه، أو أُريد به النوعُ؛ كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3]، أي: النوع الطَّيِّبَ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ، فكيف يُتَّخَذ إلهًا معبودًا؟
قوله تعالى: {والله هُوَ السميع العليم} {هو}: يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانيًا، و{السَّميعُ} خبرُه، و{العَلِيمُ} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملة خبرُ الأوَّل، ويجوزُ أن يكون فَصْلًا، وقد عُرِفَ ما فيه، ويجوزُ أن يكونَ بدلًا، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ {تَعْبُدونَ}، أي: أتعبُدُونَ غير الله، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ؛ فإنه قال: {والله هُوَ السميع العليم} متعلِّق بـ {أتَعْبُدُونَ}، أي: أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ؟ أتعبدون العاجزَ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم؟.
انتهى، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ؟. اهـ.