فصل: تفسير الآية رقم (77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (77):

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى، ولم يبق لأحد علة، أمره صلى الله عليه وسلم أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام: اليهود بإنزاله عن رتبته، والنصارة برفعه عنها بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب} أي عامة {لا تغلوا} أي تجاوزوا الحد علوًا ولا نزولًا {في دينكم}.
ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص، نفى ذلك بقوله: {غير الحق} وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها، ولو نكر لكان من جاوز حقًا إلى غيره واقعًا في النهي، كما جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع، ولو قيل: باطلًا، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل، لا أصله ومطلقه.
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال: {ولا تتبعوا} أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك {أهواء قوم} أي هَوَوا مع ما لهم من القوة، فكانوا أسفل سافلين، والهوى لا يستعمل إلا في البشر {قد ضلوا} ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم {وأضلوا} أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم {كثيرًا} أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظن حقًا {وضلوا} أي بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمنابذة الشرع {عن سواء} أي عدل {السبيل} أي الذي لا سبيل في الحقيقة غيره، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم، وهذا غاية في التبكيت، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلًا، فكيف وإنما هو تقليد في هوى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما تكلم أولًا على أباطيل اليهود، ثم تكلم ثانيًا على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها، فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال: {يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} والغلو نقيض التقصير.
ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.
وقوله: {غَيْرَ الحق} صفة المصدر، أي لا تغلوا في دينكم غلوًا غير الحق، أي غلوًا باطلًا، لأن الغلو في الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده، وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل، وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا.
وإلى أنه كذاب، والنصارى ادعوا فيه الإلهية. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عطية:

ثم أمر تعالى نبيه محمدًا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله: {لا تغلوا} بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب {غير} وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعًا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق} ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتناول من جاء بعدهم.
ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين.
وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى.
قال الزمخشري: الغلو في الدين غلوان: غلو حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى.
وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة، ومن عدا المعتزلة.
ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى، وادعاؤهم فيه أنه الله.
ومن غلوّ النصارى ما تقدّم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.
وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوًّا غير الحق.
وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ يا أهل الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى فريقي أهل الكتاب، بطريق الالتفات على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعد إبطال مسلك كل منهما، للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل، وإرشادهم إلى الأَمَم المِئْتاء {لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ} أي لا تتجاوزوا الحد، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة، ولليهود عن وضعهم له عليه السلام عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء، وقيل: هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن الإنجيل أيضًا ينهاهم عن الغلو، وقوله تعالى: {غَيْرَ الحق} نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي لا تغلوا في دينكم غلوًا غيرَ الحق، أي غلوًا باطلًا، أو حالٌ من ضمير الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلًا، وقيل: نُصب على الاستثناء المتصل، وقيل: على المنقطع. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ يا أهل أَهْلِ الكتاب} تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بارادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار الطبرسي كونه خطابًا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم {لاَ تَغْلُواْ في دِينِكُمْ} أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقوّلوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم {غَيْرَ الحق} نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق أي باطلًا وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية.
وفي الكشاف «الغلو في الدين غلوّان: «غلو» حق وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الاهواء والبدع» انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجًا عنه حتى يكون غلوًا، وجوز أن يكون {غَيْرِ} حالًا من ضمير الفاعل أي: لا تغلوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي: لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلًا منسوخًا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء.
والغلوّ مصدر غَلا في الأمر: إذا جاوزَ حدّه المعروف.
فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.
وقوله: {غيرَ الحقّ} منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل {تغلوا} أي غلوًّا غير الحقّ، وغير الحقّ هو الباطل.
وعدل عن أن يقال باطلًا إلى {غيرَ الحق} لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف.
والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم.
وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازًا عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع.
وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ} في سورة النّساء (171).
فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام.
ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمدًا.
ومن الغلوّ الّذي ليس باطلًا ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل}
الأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.
قال الشعبي: ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه.
قال: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26] {واتبع هَوَاهُ فتردى} [طه: 16] {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر.
لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه.
وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله.
وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى:
إن الهوى لهو الهوان بعينه ** فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة. اهـ.

.قال ابن عطية:

ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديمًا وأضلوا كثيرًا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: {وضلوا عن سواء السبيل} وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيرًا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق. اهـ.

.قال القرطبي:

وتكرير ضلوا على معنى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد؛ والمراد الأسلاف الذين سنوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى. اهـ.