فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبقولي: «مُفْردَيْنِ»: من نحو: «العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ»، فأمَّا قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ففُهِم بالإجْماعِ.
وبقولي: «مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ»: تحرُّزٌ من نحو: قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ: السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ، وقال بعضهم: «هُوَ مُخْتَارٌ»، أي: فيجوز غيرُه، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ.
قال شهاب الدين: وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى»، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين، ورجَّح ما قلته؛ قال- رحمه الله-: «وقال ابن عبَّاس: يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ، ومعنى هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيلِ، وقيل: على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ، والإنجيلَ لسانُ عيسى»، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ، ثم قال: وقال الزَّجَّاج: «وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّدًا نَبِيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به»، والقول هو الأوَّل، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ، ولكن ليس قولًا للمفسِّرين، و{عَلَى لسانِ} متعلِّقٌ بـ {لُعِنَ} قال أبو البقاء: «كما يُقال: جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ»، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ، وقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} قد تقدَّم نظيره، وقوله: {وَكَانوا يَعْتَدُونَ} في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان:
أظهرهما: أن تكون عطفًا على صلةِ «مَا» وهو {عَصَوْا}، أي: ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين.
والثاني: أنها استئنافيةٌ، أي: أخبر الله تعالى عنهم بذلك، قال أبو حيان: «ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له، وهو قولُه: كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ». اهـ.

.تفسير الآية رقم (79):

قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما علل تعالى لعنهم بعصيانهم وغلوهم في الباطل، بينه مخصصًا للعلماء منهم بزيادة تهديد، لأنهم مع كونهم على المنكر لا ينهون غيرهم عنه، مع أنهم أجدر من غيرهم بالنهي، فصاروا عليّ منكرين شديدي الشناعة، وسكوتهم عن النهي مغوٍ لأهل الفساد ومغرٍ لهم ولغيرهم على الدخول فيه والاستكبار منه فقال تعالى: {كانوا لا يتناهون} أي لا ينهى بعضهم بعضًا، وبين إغراقهم في عدم المبالاة بالتنكير في سياق النفي فقال: {عن منكر}.
ولما كان الفعل ما كان من الأعمال عن داهية من الفاعل سواء كان عن علم أو لا، عبر به إشارة إلى أن لهم في المناكر غرام من غلبته الشهوة، ولم يبق لهم نوع علم، فقال: {فعلوه}؛ ولما كان من طبع الإنسان النهي عن كل ما خالفه طبعًا أو اعتقادًا، لاسيما إن تأيد بالشرع، فكان لا يكف عن ذلك إلا بتدريب النفس عليه لغرض فاسد أداه إليه، أكد مقسمًا معبرًا بالفعل الذي يعبر به عما قد لا يصحبه علم ولا يكون إلا عن داهية عظيمة فقال: {لبئس ما كانوا} أي جبلة وطبعًا {يفعلون} إشارة إلى أنهم لما تكررت فضائحهم وتواترت قبائحهم صاروا إلى حيز ما لا يتأتى منه العلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى فسّر المعصية والاعتداء بقوله: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} وللتناهي هاهنا معنيان: أحدهما: وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي، أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضًا، روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم».
والمعنى الثاني في التناهي: أنه بمعنى الانتهاء.
يقال: انتهى عن الأمر، وتناهى عنه إذا كف عنه.
ثم قال تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} اللام في {لَبِئْسَ} لام القسم، كأنه قال: أقسم لبئس ما كانوا يفعلون، وهو ارتكاب المعاصي والعدوان، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإن قيل: الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولًا غير ممكن فلم ذمهم عليه؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني: لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته.
الثالث: لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه. اهـ.

.قال ابن عطية:

ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرًا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود: وكان رسول الله متكئًا فجلس، وقال: لا والله حتى تأخذوا على على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرًا».
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليمًا من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضًا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضًا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله: {يتناهون} و{فعلوه} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى: {لبئس ما كانوا يفعلون} اللام لام قسم، جعل الزجاج {ما} مصدرية وقال: التقدير لبئس شيئًا فعلهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقال غيره {ما} نكرة موصوفة، التقدير: لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلًا. اهـ.

.قال الخازن:

{كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} أي لا ينهى بعضهم بعضًا عن منكر.
وقيل: معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ولا عن الإصرار عليه {لبئس ما كانوا يفعلون} اللام في لبئس لام القسم أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلون يعني من ارتكاب المعاصي والعدوان.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلواذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} إلى قوله فاسقون ثم قال «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا» زاد في رواية «أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم» أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}» وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئًا فقال «لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا» قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب قوله أكيله وشريبه وقعيده هو المؤاكل والمشارب والمقاعد فعيل بمعنى فاعل وقوله: لتأطرنه، الأطر العطف يعني لتعطفنه ولتردنه إلى الحق الذي خالفه والقصر والقهر على الشيء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}.
فيه مسألتان:
الأُولى قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} أي لا ينهى بعضهم بعضًا: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} ذمٌّ لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذمّ من فعل فعلهم.
خرّج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتّقِ الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكِيلَه وشرِيبه وقعِيدَه فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: «كلاّ والله لتأمرُنّ بالمعروف ولَتَنْهُونّ عن المنكر ولتأخذُنّ على يدي الظالم ولتأطُرنّه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنَنّكم كما لعنهم». وخرجه الترمذيّ أيضًا.
ومعنى لتأطُرنه لتردنه.
الثانية قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأَمِن الضرر على نفسه وعلى المسلمين؛ فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه.
وقال حذّاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليمًا عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا.
وقال بعض الأُصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضًا واستدلوا بهذه الآية؛ قالوا: لأن قوله: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي.
وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين وأمر بتركهم وهجرانهم.
وأكّد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود: {ترى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} «وما» من قوله: «ما كانوا» يجوز أن تكون في موضع نصب وما بعدها نعت لها؛ التقدير لبئس شيئًا كانوا يفعلونه.
أو تكون في موضع رفع وهي بمعنى الذي. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضًا عن المنكر.
وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال:
أحدها: صيدُ السّمك يوم السبت.
والثاني: أخذ الرشوة في الحكم.
والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم، وذِكْر المنكر منكَّرًا يدل على الإِطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدلُ على ما قلنا، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم».
قوله تعالى: {لبئس ما كانوا يفعلون} قال الزجاج: اللاّم دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى: لبئس شيئًا فعلهم. اهـ.