فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك فالشاعر العربي ينصح كل مستمع للشكوى ألا يرد السماع بل يصغي لصاحب الشكوى؛ لذلك يقول:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ** يواسيك أو يسليك أو يتوجع

وحينما تظهر المشاركة لصاحب الشكوى فأنت تريحه، وتهديه إلى الاطمئنان. وينصح الشاعر صاحب الشكوى أن يضعها عند ذي المروءة؛ لأن ذا المروءة إنما يعطيك أذنه ومشاعره وهو جدير أن تستأمنه على السّر، وكأن الأسرار في خِزانة لن يعرف أحد ما بداخلها، وبمثل هذا الاعتراف يريح الإنسان نفسه، ويصرف انفعاله إلى شيء آخر.
وعندما تكرر النفس البشرية فعل السوء ولا تجد من ينهها أو ينهاها، فالسوء يعم وينتشر، هنا تتدخل السماء بإرسال رسول.
ويوضح الحق أن السبب في إرسال رسول لهؤلاء الناس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والتناهي عن المنكر إنما يكون بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا يظنن المؤمن أنه بمنجاة عن خاطر السوء في نفسه لأن كلًا منا بشر. وعرضة للأغيار، ومن لطف الله لحظة أن يهب خاطر السوء على مؤمن أن يجد أخًا خاليًا من خواطر السوء فيواصيه بالحق ويواصيه بالصبر؛ لأن الفرد إن جاءه سعار الشهوة في اللحظة التي يجيء فيه السعار نفسه عند صديق له فقد يتفقان على المنكر، أما إن جاء سعار الشهوة لإنسان وكان صديقه مؤمنًا خاليًا من خواطر السوء، فهو ينهاه ويوصيه بالحق والصبر. وهكذا. يتبادل المؤمنون التناهي بالتواصي؛ فمرة يكون الإنسان ناهيًا، ومرة أخرى يكون الإنسان منهيًا.
وكذلك أعطى الله هذه المسألة كلمة التواصي: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
ولم يخصص الحق قومًا ليكونوا الناهين، وقومًا آخرين ليكونوا المنهيين، لا، بل كل واحد منا عرضة أن يكون ناهيًا إن اتجهت خواطر صاحبه إلى الحرام، وعرضة أيضًا لأن يكون منهيًا إن كانت نفسه تتجه إلى الحرام، وبذلك نتبادل النهي والتناهي، ويسمون ذلك «المفاعلة» مثلما نقول: «شارك زيد عمرا»، ولا يشارك الإنسان نفسه إنما يشارك غيره، ومعنى هذا أن هناك شخصا قد كان فاعلا مرة، ومرة أخرى يكون مفعولًا، وكيف تكون صيغة التفاعل هذه؟. إنها مثل «تشارك» و«تضارب» أي أن يأتي الفعل من اثنين. ومن السهل إذن أن ينهي إنسان صديقًا له أو ينهاه صديق له. وقد نفسرها على أن الجميع ينهى نفسه بفعل القوة الخفية الفطرية التي توجد في كل نفس، أي أن كل نفس تنهى نفسها. إذن فالتفاعل إما أن يكون في النفس وإما أن يكون في المجتمع.
{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ولننتبه هنا إلى أنهم قد فعلوا المنكر بالفعل، فكيف يكون التناهي عن المنكر؟. يمكن أن نفهم العبارة على أساس أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله، أي أن الإنسان منهم كان يرى زميلًا له يتهيأ لارتكاب منكر فلا ينهاه. ومثلها في ذلك قوله الحق: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6].
وهذا القول لا يعني أبدًا أن يتوضأ الإنسان بعد أن يدخل في الصلاة. إنما يعني أن نبدأ الوضوء لحظة الاستعداد للصلاة، يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأداءها.
وقوله الحق: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} يجعلنا في حالة انتباه وفراسة إيمانية ويقظة.
ويلتفت كل منا إلى نفسه ويرقبها ويراقبها، وإلى أي اتجاه تسير، فلا يترك الإنسان نفسه تتجه إلى أي مكان موبوء أو فعل غير مستقيم. وكذلك ينتبه الإنسان إلى أصدقائه وأخلائه حتى نتناهى عن أي منكر فلا نقع أبدًا في دائرة هذا الحكم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وساعة نسمع {لبئس} فلنعرف أن اللام إذا سبقت فهي للقسم، وحين يقسم الله فهذا تأكيد للقضية، فهل هذا تأكيد على طريقتنا نحن البشر؟. لا. فليس أحد منا كالله، ونحن في حياتنا نعرف الأدلة على الحق، إما إقرار، وإما شهادة، وإما قسم.
والقاضي لا يحكم إلا بإقرار المتهم أو بشهادة الشهود، أو باليمين، وحين يأتي الحق بالحكم فهو يأتي به على معرفة الخلق. وعدم التناهي عن المنكر هو فعل وقول معا. وبما أن الحق لم يقل: لبئس ما كانوا يقولون، ذلك أن القول مقابل للفعل، وكلاهما أيضًا عمل، فالقول عمل جارحة اللسان، والفعل هو عمل الجوارح كلها، ويجمع القول والفعل وصف «العمل». ونلحظ أن المسألة لا تقتصر على القول، إنما هي عمل قد نتج عن فعل.
ولنر الحديث النبوي القائل: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان».
وقوله الحق: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} دليل على أنهم كانوا يفعلون المنكر والقبيح قولًا وعملًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)}.
أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: ياهذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوب بعضهم ببعض. قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} إلى قوله: {فاسقون} ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق اطراء.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن بني اسرئيل لما عملوا الخطيئة نهاهم علماؤهم تعزيرًا، ثم جالسوهم وآكلوهم وشاربوهم كأن لم يعملوا بالأمس خطيئة، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبي من الأنبياء، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأطرنهم على الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، وليلعننكم كما لعنهم».
وأخرج عبد بن حميد عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوه، ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة، إن بني يأجوج قد جاؤوا، وإن رحى الإسلام ستدور، فحيث ما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم، قالوا: يا رسول الله فكيف بنا ان أدركنا ذلك؟ قال: تكونون كأصحاب عيسى، نشروا بالمناشير، ورفعوا على الخشب، موت في طاعة خير من حياة في معصية، إن أول ماكان نقص في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر شبه التعزير، فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله وشاربه كأنه لم يعب عليه شيئًا، فلعنهم الله على لسان داود، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه اطرًا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض».
وأخرج ابن راهويه والبخاري في الوحدانيات وابن السكن وابن منده والباوردي في معرفة الصحابة والطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن أبزى عن أبيه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر طوائف من المسلمين فأثنى عليهم خيرًا، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يفطنونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتفطنون، والذي نفسي بيده ليعلمن جيرانه أو ليتفقهن أو ليفطنن، أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا، ثم نزل فدخل بيته. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعني بهذا الكلام؟! قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام إلا الأشعريين، فقهاء علماء، ولهم جيران من أهل المياه جفاة جهلة، فاجتمع جماعة من الأشعريين فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذكرت طوائف من المسلمين بخير وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتعلمن جيرانكم ولتفقهنهم ولتأمرنهم ولتنهونهم، أو لأعاجلنكم بالعقوبة في دار الدنيا، فقالوا: يا رسول الله، فاما إذن فامهلنا سنة، ففي سنة ما نعلمه ويتعلمون، فامهلهم سنة، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} يعني في الزبور {وعيسى} يعني في الإنجيل.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لعن الذين كفروا...} الآية. قال: لعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد محمد في القرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {لعن الذين كفروا...} الآية. خالطوهم بعد النهي على تجارهم، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض، وهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم.
وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك الغفاري في الآية قال: لعنوا على لسان داود فجُعلوا قردة، وعلى لسان عيسى فجُعِلوا خنازير.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد. مثله.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: لعنهم الله على لسان داود في زمانهم، فجعلهم قردة خاسئين، ولعنهم في الإنجيل على لسان عيسى فجعلهم خنازير.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} ماذا كان بعضهم؟ قالوا {لا يتناهون عن منكر فعلوه}.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي عمرو بن حماس أن ابن الزبير قال لكعب: هل لله من علامة في العباد إذا سخط عليهم؟ قال: نعم، يذلهم فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وفي القرآن {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل...} الآية.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعًا «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًا من أوّل النهار، فقام مائة واثنا عشر رجلًا من عبادهم، فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا في آخر النهار، فهم الذين ذكر الله: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل...} الآيات».
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم».
وأخرج ابن ماجة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم».
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة».
وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».