فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ}، أي علماء.
قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم.
وقال ورقة:
بما خبرتنا من قول قس ** من الرهبان أكره أن يعوجا

وقال عروة بن الزبير حرّفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غيّر ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس، وبقي قيس على الحق وعلى الإستقامة والإقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس.
عبد اللّه بن يوسف بن أحمد، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري، عبد اللّه بن محمد، يحيى بن الحمامي، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن حامية بن رئاب عن سلمان قال: قرأت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذلك بإن منهم قسيسين ورهبانًا فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهبانًا والرهبان العبّاد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدًا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وأنشد في الواحد:
لو كلمت رهبان دير في القلل ** لانحدر الرهبان يسعى فنزل

وأنشد في الجمع:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ** العصم من شعف العقول الغادر

وهو من قول القائل: رهب اللّه أي خافه، يرهبه رهبة ورهبًا ورهبانًا {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ذلك} أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين {بِأَنَّ مِنْهُمْ} أي بسبب أن منهم {قِسّيسِينَ} وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم، والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل، سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم، قاله الراغب، وقيل: القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيسًا لتتبعه العلم، وقيل: قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى، وقيل: إنه أعجمي، وقال قُطرُبُ: القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم، وقيل: ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبقي منهم رجل يقال له: قِسيسُ لم يبدِّلْ دينه، فمن راعى هديه ودينه قيل له: قسيس. {وَرُهْبَانًا} وهو جمع راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان، وقيل: إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قال:
لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل ** لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ

والترهب التعبد في الصومعة، قال الراغب: الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف، والتنكير لإفادة الكثرة، ولابد من اعتبارها في القسيسين أيضًا، إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين، فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها، وإلا فمن اليهود أيضًا قوم مهتدون، ألا يُرى إلى عبد اللَّه بن سلام وأضرابه، قال تعالى: {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} الخ، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على «أن منهم»، أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموه، ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ذلك} الإشارة إلى الكلام المتقدّم، وهو أنّهم أقرب مودة للذين آمنوا.
والباء في قوله: {بأنّ منهم قسّيسين} باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل.
والضمير في قوله: {منهم} راجع إلى النصارى.
والقِسّيسون جمع سلامة لقِسّيس بوزن سِجّين.
ويقال قَسّ بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية.
وقال قطرب: هي بلغة الروم.
وهذا ممّا وقع فيه الوفاق بين اللغتين.
والرهبان هنا جمع راهب، مثل رُكْبان جمع راكب، وفُرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصففٍ على فاعل.
والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة.
وقال الراغب: الرهبان يكون واحدًا وجمعًا، فمَن جعله واحدًا جمعَه على رهابين ورَهابنة.
وهذا مروي عن الفرّاء.
ولم يحك الزمخشري في الأساس أنّ رهبان يكون مفردًا.
وإطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي:
لو أبصَرَتْ رهبانَ دَير بالجَبل ** لانحدر الرّهْبان يَسْعى ويزِل

وإنّما كان وجود القسّيسين والرهبان بينهم سببًا في اقتراب مودّتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حُسن أخلاق القسّيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم.
وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمّرون الأديرة والصَوامع والبِيع، وأكثرهم من عرب الشام الذين بلغَتْهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم.
قال النابغة:
لو أنَّها برزت لأشمَط راهِب ** عبدَ الإله صَرورة مُتَعَبِّد

لرَنَا لطلعتها وحسن حديثها ** ولخَالَه رَشدًا وإن لَم يَرْشَد

فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم ممّا يكون سببًا في صلاح أخلاق أهل ملّتهم.
والاستكبار: السين والتاء فيه للمبالغة.
وهو يطلق على التكبّر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحقّ، وهما متلازمان.
فالمراد من قوله: {لا يستكبرون} أنَّهم متواضعون منصفون.
وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {بأنّ منهم}، أي وأنّ الذين قالوا إنّا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملّة النصرانية في ذلك العصر.
وقد كان نصارى العرب متحلِّينَ بمكارم من الأخلاق.
قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصّرين:
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم ** قويم فما يرجُون غيرَ العواقب

ولا يحسبون الخيرَ لا شرّ بعده ** ولا يحسبون الشرّ ضربة لاَزب

وظاهر قوله: {الّذين قالوا إنّا نصارى} أنّ هذا الخُلُق وصف للنصارى كلّهم من حيث إنّهم نصارى فيتعيّن أن يحمل الموصول على العموم العُرفي، وهم نصارى العرب، فإنّ اتّباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضَمّ إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارمَ أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد ووَرقة بنُ نوفل وأضرابهم.
وضمير {وأنّهم لا يستكبرون} عائد إلى {قسّيسين ورهبانًا} لأنّه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله: {وأنّهم}، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتَكون ضمائر الجمع من قوله: {وإذا سَمعوا إلى قوله فأثابهم الله} [المائدة: 83- 85] تابعة لضمير {وأنّهم لا يستكبرون}.
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى مَعَادَين هي سياق الكلام.
ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى: {وعَمَرُوها أكْثَرَ ممَّا عَمَرُوها} [الروم: 9].
فضمير الرفع في {عمروها} الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في عمروها الثاني.
وكقول عبّاس بن مرداس:
عُدْنَا ولولاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم ** بالمسلمين وأحرزُوا مَا جَمَّعوا

يريد بضمير «أحرزوا» جماعة المشركين، وبضمير «جمَّعوا» جماعة المسلمين.
ويعضّد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسّرين عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما: أنّ المعنيّ في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستّين راهِبًا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا.
وهم: بَحِيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي مِمَّن يحسنون العربية ليتمكّنوا من فهم القرآن عند سماعه.
وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة إليهم في هذه الآية تذكيرًا بفضلهم.
وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معيّنون من النصارى أسلموا في زمن الرسول. اهـ.

.قال الفخر:

القس والقسيس اسم لرئيس النصارى، والجمع القسيسون.
وقال عروة بن الزبير: صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين، وكان سمه قسيسًا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس.
قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم، وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين، وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب، وفرسان وفارس، وقال بعضهم: الرهبان واحد، وجمعه رهابين كقربان وقرابين، وأصله من الرهبة بمعنى المخافة.
فإن قيل: كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27] وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا رهبانية في الإسلام».
قلنا: إن ذلك صار ممدوحًا في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحًا على الإطلاق. اهـ.

.قال الخازن:

[فصل: ذكر قصة الهجرة الأولى وسبب نزول هذه]:
قال ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى}:
إن قريشًا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فأذوهم وعذبوهم فافتتن من افتتن منهم وعصم الله من شاء منهم ومنع الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بأصحابه ولم يقدر أن يمنعهم من المشركين ولم يؤمر بعد بالجهاد، أمر أصحابه بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: إن بها ملكًا صالحًا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا فخرج إليها أحد عشر رجلًا وأربع نسوة سرًا وهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهل بن عمرو، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار إلى أرض الحبشة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى.