فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلتُ: الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، وكان من أجله وبسببه، والثانيةُ: لبيان الموصول الذي هو «ما عَرَفُوا»، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كلَّه، وقرَءُوا القرآن، وأحاطُوا بالسنة.
انتهى، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحًا، و«من» الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من {الدَّمْع}، أي: في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئًا من معرفةِ الحقِّ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق بـ {تَفِيضُ}؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظًا ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ «مِنْ» في {مِنَ الدَّمْعِ} لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في {مِنَ الدَّمْعِ} للبيانِ، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضُوحِ كالأول، وأمَّا {مِنَ الحَقِّ} فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أعْنِي من كذا، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق بـ {عَرَفُوا}، وهو معنى قوله: «عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ».
وقال أبو البقاء في {مِنَ الحَقِّ}: إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ، أي: مِمَّا عرفوه كائنًا من الحق، ويجوزُ أن تكون «مِنْ» في قوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا} تعليليةً، أي: إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري: «وكان من أجله وبسببه»، فقد تحصل في «من» الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضعفٌ، أو منعٌ؛ كما تقدَّم، وفي «من» الثانية أربعةٌ أيضًا: وجهان بالنسبة إلى معناها: هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلًّق به: هل هو {تَفِيضُ}، أو محذوفٌ؛ على أنها حالٌ من الدمع، وفي الثالثة: خمسةٌ: اثنان بالنسبة إلى معناها: هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها: هل هو محذوفٌ، وهو «أعْنِي»، أو نفسُ {عَرَفُوا}، أو هو حالٌ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضًا؛ كما ذكره أبو البقاء.
وقوله تعالى: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيمانًا.
قوله تعالى: {يَقُولُون} الآية.
فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه مستأنفٌ، فلا محلَّ له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ.
الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في {أعْيُنَهُمْ}، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47].
الثالث: أنه حالٌ من فاعل {عَرَفُوا}، والعاملُ فيها {عَرَفُوا}، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالًا: «كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال، ولا العامل فيها»، قال شهاب الدين: أمَّا أبو البقاء، فقد بَيَّنَ ذا الحال، فقال: {يَقُولُونَ} حالٌ من ضمير الفاعل في {عَرَفُوا}، فقد صرَّح به، ومتى عُرِفَ ذو الحال، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهرُ: أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالًا من الضمير في {أعْيُنَهُمْ}؛ بما معناه: أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه، وإن كان المضافُ جُزْأهُ، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته، ورَدَّ كونها حالًا أيضًا من فاعل {عَرَفُوا}؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي غيرِها، قال: «فالأوْلَى: أن يكون مستأنفًا»، قال شهاب الدين: أمَّا ما جعله خطأ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا، وأمَّا قوله: «يَلْزَمُ التَّقييدُ»، فالجوابُ: أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم، وقوله تعالى: {رَبَّنا آمَنَّا} في محلِّ نصب بالقول، وكذلك: {فاكْتُبْنَا} إلى قوله سبحانه: {الصَّالِحِينَ}. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (84):

قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{وما} أي ويقولون: ما، أي أيّ شيء حصل أو يحصل {لنا} حال كوننا {لا نؤمن بالله} أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه {وما} أي وبما {جاءنا من الحق} أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالًا أو ماضيًا أو آتيًا.
ولما كانوا يهضمون أنفسهم، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا: {ونطمع أن يدخلنا ربنا} أي بمجرد إحسانه، لا بعمل منا، ولجريهم في هذا المضمار عبروا بمع دون «في» قولهم: {مع القوم الصالحين} هضمًا لأنفسهم وتعظيمًا لرتبة الصلاح. اهـ.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف محل {لاَ نُؤْمِنُ} النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين، كقولك قائمًا، والواو في قوله: {وَنَطْمَعُ} واو الحال.
فإن قيل: فما العامل في الحال الأولى والثانية.
قلنا: العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين، وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيدًا بالحال الأولى، لأنك لو أزلته وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلامًا، ويجوز أن يكون {وَنَطْمَعُ} حالًا من {لاَ نُؤْمِنُ} على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، وأن يكون معطوفًا على قوله: {لاَ نُؤْمِنُ} على معنى: وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم، قال لهم كفار قومهم: تركتم ملة عيسى ويقال: إن كفار مكة عاتبوهم على إيمانهم.
وقالوا: لم تركتم دينكم القديم، وأخذتم الدين الحديث؟.
فقالوا: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} ومعناه: وما لنا لا نصدق بالله أن محمدًا رسوله، والقرآن من عنده، {وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} يعني: وبما جاءنا من الحق، {وَنَطْمَعُ} يقول: نرجو، {أَن يُدْخِلَنَا مَعَ القوم الصالحين} يعني: مع المؤمنين الموحدين في الجنة فمدحهم الله تعالى، وحكى عن مقالتهم، وأخبر عن ثوابهم في الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءَنَا مِنَ الحق} بيّن استبصارهم في الدين؛ أي يقولون وما لنا لا نؤمن؛ أي وما لنا تاركين الإيمان.
ف {نُؤْمِنُ} في موضع نصب على الحال.
{وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} أي مع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] يريد أُمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الكلام إضمار أي نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة.
وقيل: «مع» بمعنى «في» كما تذكر «في» بمعنى «مع» تقول: كنت فيمن لقي الأمير؛ أي مع من لقي الأمير.
والطمع يكون مخففًا وغير مخفف؛ يقال: طَمِع فيه طَمَعًا وطَمَاعَةً وطَمَاعِيَة مخفف فهو طَمِع. اهـ.

.قال البيضاوي:

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين}.
استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإِيمان مع قيام الداعي وهو الطمع في الانخراط مع الصالحين، والدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم أمنتم؟ و{لاَ نُؤْمِنُ} حال من الضمير والعامل ما في اللام من معنى الفعل، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه ورسوله فإن الإِيمان بهما إيمان به حقيقة وذكره توطئة وتعظيمًا، ونطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف، والواو للحال أي ونحن نطمع والعامل فيها عامل الأولى مقيدًا بها أو نؤمن. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلامًا مستأنفًا تحقيقًا لإيمانهم وتقريرًا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن {لاَ نُؤْمِنُ} حال من الضمير في {لَنَا} والعامل على ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعًا كما في قوله تعالى: {مالِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} [ياس: 22] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 02] وأمثاله، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا الخ ويقولون ما لنا لا نؤمن الخ، وقيل: هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ.
وقال بعضهم: إنه جواب سائل قال: لم آمنتم؟ واختاره الزجاج.
واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لابد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لابد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم المعنى بدونها قال: ولذا لا يصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها.
وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك، وقيل: بكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول، والإيمان بالكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعًا.
و{مِنَ الحق} على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل، وجوز أن تكون «من» لابتغاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ و{مِنَ الحق} خبره والجملة في موضع الحال أيضًا، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد.
وقوله تعالى: {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ}[البقرة: 25] أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في {لاَ نُؤْمِنُ} على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وجوز فيه أن يكون معطوفًا على {نُؤْمِنُ} أو على {لاَ نُؤْمِنُ} على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة، وموضع المنسبك من أن ما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، والمراد في {أَن يُدْخِلَنَا}، واختار غير واحد من المعربين أن مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة، قيل: ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ}، هو من قولهم، فيحتمل أنّهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردّد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام.