فصل: تفسير الآية رقم (85):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (85):

قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم، ذكر جزاءهم عليه فقال: {فأثابهم الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بما قالوا} أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية {جنات تجري} ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد، أثبت الجار فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: {خالدين فيها}.
ولما كان التقدير: لإحسانهم، طرد الأمر في غيرهم فقال: {وذلك} أي الجزاء العظيم {جزاء المحسنين} أي كلهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب.
وأجابوا عنه من وجهين: الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83] فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان.
الثاني: روى عطاء عن ابن عباس أنه قال قوله: {بِمَا قَالُواْ} يريد بما سألوا، يعني قولهم {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83]. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} من التوحيد، {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} يعني: ثواب الموحدين المطيعين.
وقد احتج بعض الناس بهذه الآية، أن الإيمان هو مجرد القول، لأنه قال: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} ولكن لا حجة لهم فيها، لأن قولهم كان مع التصديق، والقول بغير التصديق، لا يكون إيمانًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ} دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم؛ فأجاب الله سؤالهم وحَقَّق طمعَهم وهكذا من خَلَص إيمانه وصَدَق يقينه يكون ثوابه الجنة. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد.
وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلًا أي هذا مذهبه واعتقاده.
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] إلخ.
واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم: {رَبَّنَا ءامَنَّا} [المائدة: 83] وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء أن المراد به {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [المائدة: 83] وقولهم {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا} [المائدة: 84] الخ، قال الطبرسي: «فالقول على هذا بمعنى المسألة» وفيه نظر، والإثابة المجازاة، وفي «البحر» «أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك».
وقرأ الحسن {فاتاهم الله}.
{جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} أبد الآبدين وهو حال مقدرة {وَذَلِكَ} المذكور من الأمر الجليل الشأن {جَزَاء المحسنين} أي جزاؤهم، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحًا لهم وتشريفًا بهذا الوصف الكريم، ويحتمل أن يراد الجنس ويتدرجون فيه اندراجًا أوليًا أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور. اهـ.

.قال الفخر:

الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلدًا في النار، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {وذلك جَزَاء المحسنين} وهذا الإحسان لابد وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83] ومن الإقرار به، وهو قوله: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} وإذا كان كذلك، فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة، وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب، وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار، فوجب أن يحصل له هذا الثواب، فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع، أو يقال: يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب. اهـ.

.قال النسفي:

{فأثابهم اللّه بما قالوا} أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء.
وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله: {بما قالوا} لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك، وأنى يكون مجرد القول إيمانًا وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
نفى الإيمان عنهم مع قولهم {آمنا بالله} لعدم التصديق بالقلب.
وقال أهل المعرفة: الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدعاء على العطاء، والرضا بالقضاء، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه. اهـ.

.قال البقاعي:

واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلًا بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى! فأنزل الله فيهم هذه الآية {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا} [المائدة: 82]- إلى آخرها، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا} [المائدة: 82] قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيار أصحابه ثلاثين رجلًا، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يس فبكوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
وإذا نظرت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية، فإنه ما كاتب نصرانيًا إلا آمن، أو كان لينًا ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم وأحبابهم، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية، كما هو واضح في السير، مبين جدًا في شرحي لنظمي للسيرة، وكان السر في ذلك- مع ما تقدم من باعث الزهد- أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمنًا من زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء أولاد علات- وفي رواية: أبناء، وفي رواية: إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيني وبينه، وفي رواية: وليس بيني وبين عيسى- نبي.
وفي رواية لمسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله! قال: الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}.
لمَّا صَدَقَتْ آمالهم قابلها بالتحقيق، سُنَّةً منه سبحانه ألا يخيب راجيه، ولا يرد مؤمليه، وإنما علَّق الثواب على قولِ القلب الذي هو شهادةٌ عن شهوده، فأمّا النظر المنفردُ عن البصيرةِ فلا ثوابَ عليه ولا إيجاب. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
إنها كلمة الحق التي تقال في كل مكان وزمان. قالها نجاشي الحبشة وله سلطان لأهل الجاه من قريش الذين استبد بهم باطلهم؛ لذلك كان لهذه الكلمة وزنها، فعندما سمع ما نزل من القرآن من سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. إذن فهي كلمة حق لها وزن، والله سبحانه وتعالى يجزل العطاء لكل من ساند الحق ولو بكلمة فهو سبحانه «الشكور» الذي يعطي على القليل الكثير، و«المحسن» الذي يضاعف الجزاء للمحسنين.
ولنا أن نعرف أن للقول أهمية كبرى لأنه يرتبط من بعد ذلك بالسلوك. وكان قول النجاشي عظيمًا، لكن العمر قد قصر به عن استمرار العمل بما قال. فقد قال كلمته وجاءه التوكيل من رسول الله ليعقد للرسول على أم حبيبة بنت أبي سفيان فقعد عليها وكيلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرها من ماله ثم مات، ولم تكن أحكام الإسْلام قد وصلت إليه ليطبقها؛ لذلك كان يكفيه أنه قال هذا القول، ولذلك صلى عليه النبي صلاة الغائب.
وهناك قصة «مخيريق» اليهودي. لقد تشرب قلبه الإسلام وامتلأ به وكان في غاية الثراء فقال لليهود: كل مالي لمحمد وسأخرج لأحارب معه. وخرج إلى القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل فمات شهيدًا، وهو لم يكن قد صلى في حياته كلها ركعة واحدة. إذن مجرد القول هو فتح لمجال الفعل.
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} والحق يريد أن يؤكد لنا أن كل حركة إيمانية حتى ولو كانت قولًا إنما تأخذ كمالها من عمرها. ونعلم أن الإيمان في مكة كان هو الإيمان بالقول. ذلك أن الناس آمنت ولم تكن الأحكام قد نزلت، فغالبية الأحكام نزلت في المدينة. وعلى ذلك أثاب الله المؤمنين لمجرد أنهم قالوا كلمة الإيمان، حدث ذلك ولم يكن قد جاء من الحق الأمر بالبلاغ الشامل وهو قوله الحق: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214].
فهؤلاء قد جزاهم الله حسن الثواب وسمّاهم «محسنين» وكذلك فعل النجاشي، فقد ذهب إلى الإيمان دون أن توجه له دعوة وكان ذلك قبل أن يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة للملوك ليؤمنوا، وعلى هذا فالنجاشي محسن؛ لأنه قفز إلى الإيمان قبل أن يطلب منه. وساعة يتكلم الحق عن منزلة من منازل الإيمان فهو أيضًا يتعرض للمقابل، وذلك لتبلغ العظة مراميها الكاملة. فإذا تحدث عن أهل الجنة فهو يعقبها بحديث عن أهل النار، وإذا تحدث عن أهل النار فهو يعقبها بحديث عن أهل الجنة؛ لأن النفس الإنسانية تكون مستعدة للشيء ومقابله. اهـ.