فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {بما عَقَّدْتُمْ الأيمان}، أي ما قصدتم به الحَلف.
وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة (225) {بما كَسَبَتْ قلوبُكم}.
وقَرَأ الجمهورُ {عقَّدتم} بتشديد القاف.
وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بتخفيف القاف.
وقرأه ابن ذكوان عن ابننِ عامر {عَاقدتم} بألف بعد العين من باب المفاعلة.
فأمّا {عقّدتم} بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد، وكذلك قراءة {عاقدتم} لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها، فالمقصود منها المبالغة، مثل عافَاه الله.
وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت.
والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب: عقَد المخفّف، وعقَّد المشدّد، وعَاقَد. اهـ.

.قال الفخر:

في الآية محذوف، والتقدير: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلومًا عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف.
وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة. اهـ.
وقال الفخر:
اعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير، فإن عجز عنها جميعًا فالواجب شيء آخر، وهو الصوم.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز له تركها جميعًا، ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة، فإنه يخرج عن العهدة، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير، ومن الفقهاء من قال: الواحد لا بعينه، وهذا الكلام يحتمل وجهين: الأول: أن يقال: الواجب عليه أن يدخل في الوجود واحدًا من هذه الثلاثة لا بعينه.
وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معينًا في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته، وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف، الثاني: أن يقال: الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى، إلا أنه مجهول العين عند الفاعل، وذلك أيضًا محال لأن كون ذلك الشيء واجبًا بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال، وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره، والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه. اهـ.
وقال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد، وهو ثلثا من، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم، وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة، وصاع من غير الحنطة.
حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام إلا قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطًا في العرف، أو ما كان متوسطًا في الشرع، فإن كان المراد ما كان متوسطًا في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقًا أو جعل خبزًا فإنه يصير قريبًا من المن، وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهرًا، وإن كان المراد ما كان متوسطًا في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد، وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكينًا من غير ذكر مقدار، فقال الرجل: ما أجد فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أطعم هذا، وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع، وهو مد، ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل، فكان قدرها معتبرًا بصدقة الفطر، وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي، فأما الأعدل فيكون بإدام، وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله: مد معه إدامه، والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب.
أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر، فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جدًا يكفيه الرغيف الواحد، وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان، إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالبًا كالسكر، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة، والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب والخبز، ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة، ولما كان اللفظ محتملًا لكل واحد من الأمرين فنقول: يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجهين: الأول: أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام.
الثاني: أن هذا القدر واجب بيقين، والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله: الواجب تمليك الطعام.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز.
حجة الشافعي: أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة، إما الاطعام، أو الكسوة، أو الاعتاق، ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك، فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك.
حجة أبي حنيفة: أن الآية دلّت على أن الواجب هو الإطعام، والتغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ} [الإنسان: 8] وقال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك، ويقال في العرف: فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله.
وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافيًا.
أجاب الشافعي رضي الله عنه: أن الواجب إما المد أو الأزيد، والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله: لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكينًا واحدًا عشرة أيام جاز.
حجة الشافعي رحمه الله: أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه، وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص. اهـ.
وقال الفخر:
الكسوة في اللغة معناها اللباس، وهو كل ما يكتسى به، فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله. اهـ.
وقال الفخر:
قال الشافعي رحمه الله: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام، وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله، يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة، فجعل من لا زكاة عليه عادمًا.
حجة الشافعي رحمه الله، أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط، فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم، تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يومًا وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه، وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجبًا، فوجب أن تبقى الآية معمولًا بها في غير هذه الصورة.
قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه: أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة.
وقال أبو حنيفة: يجب التتابع.
حجة الشافعي: أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام، والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام، فوجب أن يخرج عن العهدة.
حجة أبي حنيفة رحمه الله، ما روي في قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود: فصوم ثلاثة أيام متتابعات، وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.
والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآنًا لنقلت نقلًا متواترًا، إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل، فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة، فلا تصلح لأن تكون حجة.
وأيضًا نقل في قراءة أُبي بن كعب أنه قرأ {فعدة من أيام أُخر متتابعات} مع أن التتابع هناك ما كان شرطًا، وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك قال بلى، قال فالله أحق أن يعفو وأن يصفح».
قلنا: فهذا الحديث وإن وقع جوابًا عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام، وتعليله عام في جميع الصيامات، وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق هاهنا أيضًا.
من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه، وقد أتى بها، فوجب أن يخرج عن العهدة. اهـ. بتصرف يسير.
وقال الفخر:
قوله: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة، أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلومًا، كما قال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي فأفطر.
احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال: الآية دلّت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف، فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين، وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة.
قال: وقوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ذلك كفّارة أيمانكم} إشارة إلى المذكور، زيادة في الإيضاح.
والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال.
وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر.
وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسَّابة وعلاّمة.
والعرب يجمعون بينهما غالبًا.
وقوله: {إذا حلفتم} أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحِنث.
وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله: {كفّارة أيمانكم إذا حلفتم} على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة {كفّارة} إلى {أيمانكم}، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض، ولا بأس به.
ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك.
وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة.
وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة.
وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث.
ولم يستدلّ بالآية.
فاستدلّ بها الشافعي تأييدًا للسنّة.
والتكفيرُ بعد الحنث أولى. اهـ.