فصل: من فوائد الشنقيطي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المهايمي: أي: تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له، ومن جملتها صرف اللسان، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه، إلى ذلك. فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان، إذ به يتم تعظيمه. فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضًا من تعظيمه. فافهم.
وفي هذه الآية مباحث:
الأول: معنى «أو» التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث. فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم.
فأما الإطعام فليس فيه تحدي بقدر. لا في وجبة ولا وجبتين، ولا في قدر من الكيل.
ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه. جميعها مما يصدق عليه مسماء، فبأيها أخذ أجزأه. فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: يغديهم ويعشيهم. كأنه ذهب رضي الله عنه إلى المراد بالإطعام الكامل- أعني قوت اليوم وهو وجبتان- وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة.
ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزًا ولحمًا. زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزًا وسمنًا ولبنًا، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلًا حتى يشبعوا.
وعن عمر وعلي أيضًا وعائشة وثلّة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما.
وعن ابن عباس: لكل مسكين مدّ من بُر ومعه إدامه.
وفي «فتح القدير» من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز. إلا أنه إن كان برًا لا يشترط الإدام، وإن كان غيره فبإدام. وحكي عن الهادي: اشترط الأكل لإشعار «الإطعام» بذلك.
والأكثرون: أن الأكل غير شرط. لأنه ينطلق لفظ «الإطعام» على التمليك.
الثاني: إطلاق «المساكين» يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق. فبعضهم أخذ بعموم ذلك. ومذهب الشافعية والزيدية: خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر. ولم يجوزه الهادي. وظاهر الآية اشترط العدد في المساكين. وقول بعضهم: إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة، مفرعًا عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام- عدول عن الظاهر، لا يثبت إلا بنص.
الثالث: لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها؛ فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها.
قال الشافعي، رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة- من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة- أجزأه ذلك.
وقال مالك وأحمد بن حنبل: لابد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه، إن كان رجلًا أو امرأة، كل بحسبه.
وقال العوفيّ عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة.
وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت.
وعن ابن المسيّب: عمامة يلفَّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.
وعن الحسن وابن سيرين: ثوبان ثوبان.
وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} قال: عباءة لكلّ مسكين. قال ابن كثير: حديث غريب.
أقول: لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة.
الرابع: قال الرازي: المرادُ بـ «الرقبة» الجملة. قيل: الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حلّ ذَلك الحبل. فسمّي «الإطلاق من الرقبة» فكّ الرقبة. ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون: لابد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب، وإن اختلف السبب. ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي- الذي هو في «موطأ مالك» و«مسند الشافعي» و«صحيح مسلم»- أنّه ذكر أنَّه عليه عتق رقبة. وجاء معه بجارية سوداء. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال أعتقها فإنها مؤمنة... الحديث بطوله.
قال الشعراني، قدس سره في «الميزان»: قال العلماء: عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل. لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عز وجلّ. فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلصها لعبادة إبليس. وأيضًا فإن العتق قربة، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر. انتهى. الخامس: للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال. وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة- من الإطعام أو الكسوة أو العتق- فإن وجد قدر إحداهما كان ذلك مانعًا من الصوم، اللهمّ إذا فضل عن قومه وقوت عياله في يومه ذلك.
وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام، وإلاَّ صام.
السادس: إطلاق قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} صادق على المجموعة والمفرّقة. كما في قضاء رمضان، لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. ومن أوجب التتابع استدلّ بقراءة أبيّ كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}. وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما.
قال الأعمش: كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك.
قال ابن كثير: وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآنًا متواترًا. فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسير من الصحابة. وهو في حكم المرفوع.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله! نحن بالخيار؟ قال: «أنت بالخيار، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت. وإن شئت أطعمت. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات». قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدًا.
ونقل بعض الزيدية، روايةً عن ابن جبير، أنه كان يصليّ تارةً بقراءة ابن مسعود وتارةً بقراءة زيد.
السابع: قال الناصر في الانتصاف: في هذه الآية- يعني قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}- وجهٌ لطيفُ المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث، وهو المشهور من مذهب مالك. وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفًا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعًا. حيث أضاف: {إِذَا} إلى أنها إنما تجب بالحنث. فتعين تقديره مضافًا إلى الحلف. بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار. إذْ لا يعطي قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إيجابًا، إنما يعطي صحةً واعتبارًا. والله أعلم.
وهذا انتصار عل منع التكفير قبل الحنث مطلقًا، وإن كانت اليمين على برّ.
والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلا أن القول المنْصُور هو المشهور. انتهى.
وقال الرازيّ: احتجّ الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز. لأنها ذلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف. فإذا أدّاها بعد الحلف، قبل الحنث، فقد أدّى الكفارة. وقوله تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ} فيه دقيقة. وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز. انتهى. وفي «الصحيحين» من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفّر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خير. وعند أبي داود: فكفرّ عن يمينك ثم أتِ الذي هو خير.
الثامن: قال السيوطي في «الإكليل»: في قوله تعالى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} استحباب ترك الحنث إلاَّ إذا كان خيرًا، أي: لما تقدم من حديث ابن سمرة. وهذا على أحد وجهين في الآية. والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق. قال كثير:
قليل الألايَا حافظٌ ليمينه ** وإن سَبَقَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّت!

التاسع: حكمة تقديم الإطعام على العتق- مع أنه أفضل- من وجوه:
أحدها: التنبيه من أول الأمر على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب. وإلاَّ لَبُدئ بالأغلظ.
ثانيها: كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجودًا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف.
وثالثها: كون الإطعام أفضل، لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام، فيقع في الضرّ. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته، أفاده الرازي.
العاشرة: سرّ إطعام العشرة، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى. وسرّ الكسوة كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية. وسرّ التحرير فكَّ رقبة عن الإثم. وسرّ صوم الثلاثة، أنَّ الصيام لما كان ضيرًا بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع. أفاده المهايميّ، قدس سره.
الحادي عشر: قال شمس الدين بن القيّم في «زاد المعاد»: كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارةً، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة. والاستثناء يمنع عقد اليمين. والكفارة تحلّها بعد عقدها. ولهذا سمَّاها الله: {تَحِلَّةَ}. وحلف صلى الله عليه وسلم من ثمانين موضعًا. وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع: فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين} [يونس: 53] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه. فتحاكم إليه يومًا هو وخصم له. فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود. فتهيّأ للحلف. فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف؟ وقد أمر الله تعالى نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه. قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدًّا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.. انتهى. اهـ.

.من فوائد الشنقيطي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}.
قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان، هو ما قصدتم عقد اليمين فيه، لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو «لا والله» و«بلى والله»، ومنه قول الفرزدق:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله ** إذا لم تعمد عاقدات العزائم

وهذا العقد معنوي، ومنه قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم {عَقدْتُمُ} بالتخفيف بلا ألف. وقراه ابن ذكوان عن ابن عامر {عَاقدْتُم} بألف بوزن فاعل، وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف، والتضعيف والمفاعلة: معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة {عَقَّدْتُم} بلا ألف، ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضًا «وما» في قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعمًا أن ضمير الربط محذوف.
وفي المراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان:
الأول: أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله: «لا والله» و«بلى والله».
وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عبّاس في أحد قوليه، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعُروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحّاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
القول الثاني: أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه: وهذا هو مذهب مالك بن أنس، وقال: إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضًا عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن، وزارة بن أوفى، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسُّدِّي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، كما نقله عنهم ابن كثير.
والقولان متقاربان، واللغو يشملهما. لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلًا، وفي الثاني لم يقصد إلا الحقّ والصواب، وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في نظري، واللغو في اللُّغة: هو الكلام بما لا خبر فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث: «إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة انصت، فقد لغوت أو لغيت».
وقول العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم ** عن اللغا ورفث التكلم