فصل: من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا: كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية أي أن تحريم الحلال لغو لا كفارة فيه، ونعلم أن الإنسان لا يصح له أن يحلف على شيء ليس له دخل فيه؛ كقول إنسان ما: والله لن أصلي. إن مثل هذه اليمين لا تنعقد، ولذلك لا كفارة لها. لكن إن قال: والله لأشربن الخمر. هنا نقول له: امتثل إلى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
والحق سبحانه وتعالى يقول: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} إذن فهناك استدراك يتعلق باليمين المؤكدة وهي تستدعي المؤاخذة. فكيف تكون المؤاخذة وهي عقوبة، على الرغم من أنه لا عقوبة إلا بنص؟ إن الحق سبحانه وتعالى ستر العقوبة ومنعها بالكفارة: «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام». والكفارة هي ستر للعقوبة. فهل معنى ذلك أن الإنسان تلزمه الكفارة ما دام قد عقَّد الأيمان؟ لا، تكون الكفارة فقد حين تحنث في القسم فلم تبر فيه. فتكون الكفارة في هذا المجال كالآتي: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، أو صوم ثلاثة أيام لمن لم يجد.
والمناسب في الكفارة يختلف في مفهوم المفتين باختلاف الحانث، ومثال ذلك أن خليفة في الأندلس حلف يمينًا وأراد أن يؤدي عن اليمين كفارة، فجاء إلى القاضي منذر بن سعيد وسأله عن كفارة هذه اليمين؛ فقال: لابد أن تصوم ثلاثة أيام. وكان يجلس شخص آخر فأشار للقاضي إشارة فلم يعبأ القاضي منذر بن سعيد بتلك الإشارة. وخرج القاضي ومعه ذلك الشخص، فسأل القاضي: يا أبا سعيد، إن في نفسي شيئًا من فتواك؛ لماذا لم تقل للخليفة إن كفارة اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟ فقال القاضي منذر بن سعيد: أمثل أمير المؤمنين يزجر بعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين؟
وهذا يدلنا على أن القاضي منذر بن سعيد قد أجهد نفسه ليختار الكفارة التي تزجر. وهذا يعلمنا أن الكفارة في جانب منها زجر للنفس وفي جانب آخر جبر للذنب. وقد رجح القاضي منذر بن سعيد جانب الزجر على جانب جبر الذنب؛ لأن الخليفة لن يرهقه إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق أكثر من رقبة.
وفي الإطعام لعشرة مساكين من أواسط ما نطعم به الأهل، قد يقول قائل: هل الأوسطية هنا للكمية أو الكيفية؟ ونقول: يراعى فيها الكمية والكيفية. فإن كانت وجبة الإنسان مكونة من رغيف واحد فليعرف أن مِن أهله من يأكل في الوجبة الواحدة ثلاثة أرغفة فيكون الأوسط في مثل هذه الحالة رغيفين مع ما يكون من أدم كلحم ودسم. وكذلك الكسوة؛ أن يكسو الإنسان الذي يكفر عن يمين عشرة مساكين بما يستر العورة وتصح به الصلاة؛ كإزار ورداء أو قميص وعمامة، أو أي ملابس تسترهم. وها نحن أولاء نجد أن كفارة تحرير رقبة تأتي في المرتبة قبل الأخيرة ويأتي بعدها قول الحق: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}. إذن فالحق لم يرتب الكفارة وإنما علينا أن نختار منها الكفارة الملائمة.
ويأتي الحق من بعد ذلك بالقول: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} والحفظ هو عدم التضييع. أما كيف نحفظ أيماننا؟ فنقول: إن على الإنسان ألا يجري اليمين على لسانه، هذه واحدة. والثانية: أن يحاول الإنسان ألا يحنث في اليمين. وهذا يقتضي ألا يحلف الإنسان على شيء يقوله بلسانه ويخضعه لقلبه إى إذا كان على ثقة من أنه سيجند كل جوارحه للقيام بهذا العمل الذي أقسم أن يقوم به، وهذا هو معنى قوله الحق: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ}.
ويذيل الحق الآية الكريمة: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. والشكر هو الثناء من المّنعم عليه على المُنْعِمِ بالنعمة، فكأن هذه التشريعات تستحق منا الشكر؛ لأنها جعلت اللغو غير مؤاخذ عليه، ولأنها جعلت اليمين الذي عقَّدته له كفارة، وفي كل من الأمرين تيسير يستحق الشكر لله. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا...} الآية.
هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة- على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها- ويدور كله حول محور واحد.. إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية.. الله هو الذي يحرم ويحلل.. والله هو الذي يحظر ويبيح.. والله هو الذي ينهى ويأمر.. ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة. كبيرها وصغيرها. فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها.
والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله.. وليس هذا الحق لأحد إلا لله.. وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته.. والله لا يحب المعتدين.. والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول.. ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين.
وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر: {يا أيها الذين آمنوا}.. {يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا..}.. {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه..}.. {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب..}.. {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..}.. {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..}.. {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم..}.
ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان، وقضية الدين.. إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية.. فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق. ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول؛ والتحذير من التولي والإعراض؛ والتهديد بعقاب الله الشديد، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب.
ثم.. بعد ذلك.. المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته:
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون}.
فهم أمة واحدة لها دينها، ولها نهجها، ولها شرعها، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره. ولا على هذه الأمة- حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه- من ضلال الناس، ومضيهم في جاهليتهم.
ومرجعهم بعد ذلك إلى الله.
هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته. أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة. والآن نواجهها تفصيلًا في حدود هذا الإطار العام: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم. ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون}.
يا أيها الذين آمنوا.. إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم- وأنتم بشر عبيد لله- خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله. فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات؛ وليس لكم أن تمتنعوا- على وجه التحريم- عن الأكل مما رزقكم الله حلالًا طيبًا.. فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب. والذي يملك أن يقول: هذا حرام وهذا حلال: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}.
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية. والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم. فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء.. وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم. فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه. والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون. ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق!
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد.. والله لا يحب المعتدين.. وهي قضية عامة تقرر مبدأ عامًا يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية.. وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما- الخاصة بحكم الأيمان- قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحًا ودقة:
روى ابن جرير.. أنه صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف. فقال ناس من أصحابه: ما حقنا إن لم نحدث عملًا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك، وأن يأكل بالنهار؛ وحرم بعضهم النساء.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني». فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا...} إلخ.
وفي الصحيحين من رواية أنس رضي الله عنه شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير:
قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته. فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها. قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وأخرج الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم...} الآية..
فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق:
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم. واحفظوا أيمانكم. كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون}.
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة- وأمثالها- من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الامتناع عنه، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به. كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر. فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبّر، فعليه أن يفعل ما هو أبّر، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية.
قال ابن عباس: سبب نزولها: القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم.
حلفوا على ذلك فلما نزلت {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} قالوا: كيف نصنع بأيماننا «فنزلت هذه الآية».