فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوْسَطُ فِي الْمِقْدَارِ، لَا بِأَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «أَوْسَطُهُ الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَخَيْرُ مَا نُطْعِمُ أَهْلَنَا الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ» وَعَنْ عُبَيْدَةَ: «الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ».
وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: «الْخُبْزُ وَالتَّمْرُ وَالْخَلُّ».
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «أَفْضَلُهُ اللَّحْمُ وَأَوْسَطُهُ السَّمْنُ وَأَحْسَنُهُ التَّمْرُ مَعَ الْخُبْزِ» وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ.
فِي الِاحْتِجَاجِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ الظِّهَارِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ مَعَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْإِدَامِ؛ وَأَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِدَامِ» وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَحَدٍ بَيْنَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِدَامَ غَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ الطَّعَامِ وَأَنَّ الْأَوْسَطَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْأَوْسَطُ فِي مِقْدَارِ الطَّعَامِ لَا فِي ضَمِّ الْإِدَامِ إلَيْهِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} عُمُومٌ فِي جَمِيعِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُمْ، فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جَمِيعَ الطَّعَامِ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ؛ لِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كُنَّا قَدْ خَصَّصْنَا الْحُكْمَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الِاسْمُ دُونَ بَعْضٍ، لاسيما فِيمَنْ قَدْ دَخَلَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِي.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقَوْله تَعَالَى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَسَائِرُ الْأَعْدَادِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهَا، كَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَقَلِّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ.
قِيلَ لَهُ: لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ فِي ذَلِكَ سَدَّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَنْ يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ الْإِطْعَامُ أَوْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ، فَكَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِإِعْطَاءِ الْعَشَرَةِ مَوْجُودًا فِي الْوَاحِدِ عِنْدَ تَكْرَارِ الدَّفْعِ وَالْإِطْعَامِ فِي عَدَدِ الْأَيَّامِ.
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ اسْمِ إطْعَامِ الْعَشَرَةِ عَلَى وَاحِدٍ بِتَكْرَارِ الدَّفْعِ؛ إذْ كَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ تَكْرَارَ الدَّفْعِ لَا تَكْرَارَ الْمَسَاكِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ} وَهُوَ هِلَالٌ وَاحِدٌ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَمْعِ لِتَكْرَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الشُّهُورِ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَلَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ أَجْزَأَهُ.
وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِرَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَلَوْ رَمَى بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ الرَّمْيِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَالْمَقْصِدَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ حُصُولُ الْمَسَحَاتِ دُونَ عَدَدِ الْأَحْجَارِ.
فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ سَدُّ جَوْعَةِ الْمَسَاكِينِ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْوَاحِدِ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ وَبَيْنَ الْجَمَاعَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ كِسْوَتَهُمْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: «أَوْ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ» ثُمَّ لَمْ يُخَصِّصْهَا بِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ وَلَا بِجَمَاعَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ إعْطَاؤُهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ أَعْطَيْت كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِسْكَيْنَا وَاحِدًا؟ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} يَدُلُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ عَشَرَةٌ، وَيَدُلُّ أَيْضًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الطَّعَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَلَا تُجْزِي الْكِسْوَةُ عِنْدَهُمْ إذَا أَعْطَاهَا مِسْكِينًا وَاحِدًا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي الطَّعَامِ مِنْ تَفْرِيقِهِ فِي الْأَيَّامِ، وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْكِسْوَةِ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا.
وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا إعْطَاءَ قِيمَةِ الطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصِدَ فِيهِ حُصُولُ النَّفْعِ لِلْمَسَاكِينِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ النَّفْعِ بِالْقِيمَةِ مِثْلَ حُصُولِهِ بِالطَّعَامِ وَالْكُسْوَةِ.
وَلَمَّا صَحَّ إعْطَاءُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَوَاتِ مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ وَالنَّظَرِ، وَجَبَ مِثْلُهُ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا مَا يَأْكُلُهُ وَيَلْبَسُهُ بِأَنْ يُقَالَ: قَدْ أَطْعَمَهُ وَكَسَاهُ؛ وَإِذَا كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ سَائِغًا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْآيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ أَنْ يُطْعِمَهُ إيَّاهُ بِأَنْ يُبِيحَهُ لَهُ فَيَأْكُلَهُ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ الْمِسْكِينُ وَبَاعَهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ بِحُصُولِ الْمَقْصِدِ فِي وُصُولِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُطْعِمْهُ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَكْلِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ كُسْوَةً فَلَمْ يَكْتَسِ بِهَا وَبَاعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَاسِيًا بِإِعْطَائِهِ؛ إذْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ بِإِعْطَائِهِ إيَّاهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصِدُ حُصُولَ الْمَطْعَمِ وَالِاكْتِسَاءِ، وَأَنَّ الْمَقْصِدَ وُصُولُهُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ وَالطَّعَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ ثُمَّ قَالَ: أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ الْغِنَى لَهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَا مِقْدَارُ الطَّعَامِ بِعَيْنِهِ؛ إذْ كَانَ الْغِنَى عَنْ الْمَسْأَلَةِ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ كَحُصُولِهِ بِالطَّعَامِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ جَازَتْ الْقِيمَةُ وَكَانَ الْمَقْصِدُ فِيهِ حُصُولُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ لِلْمَسَاكِينِ لَمَّا كَانَ لِذِكْرِ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَائِدَةٌ مَعَ تَفَاوُتِ قِيمَتِهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ أَوْ الْكِسْوَةَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَدَّاهُمَا إلَى الْقِيمَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصَدُ حُصُولَ النَّفْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ دُونَ عَيْنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت؛ وَفِي ذِكْرِهِ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَهُمَا وَدَلَّلَنَا بِمَا ذُكِرَ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ قِيمَتِهِمَا لِيَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ حِنْطَةً أَوْ يُطْعِمَ أَوْ يَكْسُوَ أَوْ يُعْطِيَ دَرَاهِمَ قِيمَةٍ عَنْ الْحِنْطَةِ أَوْ عَنْ الثِّيَابِ، فَيَكُونُ مُوسَعًا فِي الْعُدُولِ عَنْ الْأَرْفَعِ إلَى الْأَوْكَسِ إنْ تَفَاوَتَتْ الْقِيمَتَانِ، أَوْ عَنْ الْأَوْكَسِ إلَى الْأَرْفَعِ، أَوْ يُعْطَى أَيَّ الْمَذْكُورِينَ بِأَعْيَانِهِمَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ وَجَبَتْ فِي إبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ تُوجَدْ أُخِذَ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَشَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا» فَخَيَّرَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهِيَ الْفَرْضُ الْمَذْكُورُ؛ وَكَمَا جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَيْضًا قِيمَةً لِلْإِبِلِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، وَكَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ فَإِنْ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَإِنْ جَاءَ بِقِيمَتِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ أَيْضًا.
وَلَمْ يُبْطِلْ جَوَازُ أَخْذِ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حُكْمَ التَّسْمِيَةِ لِغَيْرِهَا، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَالْعِتْقِ؟ فَالْقِيمَةُ مِثْلُ أَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّ فِي عُدُولِهِ إلَى الْأَرْفَعِ زِيَادَةٌ فَضِيلَةٌ وَفِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَوْكَسِ رُخْصَةٌ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَهُوَ الْمَفْرُوضُ، وَهَذَا مِثْلُ مَا نَقُولُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْهَا مِقْدَارُ آيَةٍ، فَإِنْ أَطَالَ الْقِرَاءَةَ كَانَ الْجَمِيعُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الرُّكُوعِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ رَاكِعًا، فَإِنْ أَطَالَ كَانَ الْفَرْضُ جَمِيعُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَطَالَ الرُّكُوعَ كَانَ مُدْرِكَهُ فِي آخِرِ الرُّكُوعِ مُدْرِكًا لِرَكْعَتِهِ؟ وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الْأَوْكَسِ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ، فَإِنْ عَدَلَ إلَى قِيمَةِ الْأَرْفَعِ كَانَ هُوَ الْمَفْرُوضُ أَيْضًا.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْكِسْوَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: «الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ».
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّرَاوِيلَ تُجْزِي، وَأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ حَنِثَ إذَا كَانَ سَرَاوِيلَ الرِّجَالِ.
وَرَوَى هِشَامُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِي السَّرَاوِيلُ وَلَا الْعِمَامَةُ؛ وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: «إنْ كَسَا الرَّجُلُ كَسَا ثَوْبًا وَلِلْمَرْأَةِ ثَوْبَيْنِ دِرْعًا وَخِمَارًا، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا تُجْزِي فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَا يُجْزِي ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِلْمَرْأَةِ وَلَا تُجْزِي الْعِمَامَةُ».
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: «تُجْزِي الْعِمَامَةُ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «تُجْزِي الْعِمَامَةُ وَالسَّرَاوِيلُ وَالْمُقَنِّعَةُ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ «ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي مَا يُسَمَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مُكْتَسِيًا إذَا لَبِسَهُ، وَلَابِسُ السَّرَاوِيلِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ الْعِمَامَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا كَلَابِسِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يُجْزِيَ السَّرَاوِيلُ وَالْعِمَامَةُ وَلَا الْخِمَارُ لِأَنَّهُ مَعَ لُبْسِهِ لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ عُرْيَانًا غَيْرَ مُكْتَسٍ، وَأَمَّا الْإِزَارُ وَالْقَمِيصُ وَنَحْوُهُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ يَعُمُّ بَدَنَهُ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُكْتَسِي، فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ.
قَوْله تَعَالَى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَعْنِي عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَتَحْرِيرُهَا إيقَاعُ الْحُرِّيَّةِ عَلَيْهَا.
وَذَكَرَ الرَّقَبَةَ وَأَرَادَ بِهِ جُمْلَةَ الشَّخْصِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَسِيرِ الَّذِي تُفَكُّ رَقَبَتُهُ وَيُطْلَقُ، فَصَارَتْ الرَّقَبَةُ عِبَارَةً عَنْ الشَّخْصِ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ: «رَقَبَتُك حُرَّةٌ» إنَّهُ يُعْتَقُ، كَقوله: «أَنْتَ حُرٌّ».
وَاقْتَضَى اللَّفْظُ رَقَبَةً سَلِيمَةً مِنْ الْعَاهَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّخْصِ بِكَمَالِهِ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا، فَاعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا بَقَاءَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي جَوَازِهَا وَجَعَلُوا فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ مَانِعًا لِجَوَازِهَا.
قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيٍّ: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: فِي قِرَاءَتِنَا: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسُ: «هُنَّ مُتَتَابِعَاتٌ لَا يُجْزِي فِيهَا التَّفْرِيقُ».
فَثَبَتَ التَّتَابُعُ بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ.
وَلَمْ تَثْبُتْ التِّلَاوَةُ لِجَوَازِ كَوْنِ التِّلَاوَةِ مَنْسُوخَةً وَالْحُكْمُ ثَابِتًا، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: «يُجْزِي فِيهِ التَّفْرِيقُ».
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يَقْتَضِي إيجَابُ التَّكْفِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ مَعَ بَقَاءِ الْخِطَابِ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَعَ عَدَمِ الْمَذْكُورِ بَدِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} فَنَقَلَهُ عَنْ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَمَا دَامَ الْخِطَابُ بِالْكَفَّارَةِ قَائِمًا عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَدُخُولُهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ الْخِطَابَ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي صَوْمِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلرَّقَبَةِ لَمْ يُجْزِ الصَّوْمُ مَعَ وُجُودِهَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصَّوْمِ لَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ فَرْضَ الْأَصْلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ الرَّقَبَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ وَبَعْدَهُ؛ إذْ كَانَ الْخِطَابُ بِالتَّكْفِيرِ قَائِمًا عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا مُنْتَظِمًا، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ الْخَفَاءَ، فَنَقُولُ: إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاه.