فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت فيّ آيات من القرآن؛ وفيه قال: وأتيت على نَفرَ من الأنصار؛ فقالوا: تَعالَ نُطعمْك ونسقيك خمرًا، وذلك قبل أن تُحرَّم الخمر؛ قال: فأتيتهم في حشٍّ والحَشُّ البستان فإذا رأس جَزُور مشويّ عندهم وزِقٌّ من خمر؛ قال: فأكلتُ وشربتُ معهم؛ قال: فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار؛ قال: فأخذ رجل لَحْيَى جمل فضربني به فجرح أنفى وفي رواية فَفَزَره وكان أنف سعد مَفْزُورًا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله تعالى فيّ يعني نفسَه شأنَ الخمر {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه}.
الثالثة هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا معمولًا به معروفًا عندهم بحيث لا يُنكَر ولا يُغيَّر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه؛ يدل عليه آية النساء {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} على ما تقدّم.
وهل كان يباح لهم شرب القَدْر الذي يُسكر؟ حديثُ حمزة ظاهر فيه حين بَقَر خواصر ناقتي عليّ رضي الله عنهما وجَبَّ أسنمتَهما، فأخبر علي بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يُسكر؛ ولذلك قال الراويّ: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثَمِلٌ؛ ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على حمزة ولا عَنَّفه.
لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لَمَّا قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القَهْقَري وخرج عنه.
وهذا خلاف ما قاله الأُصوليون وحَكَوه فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه.
والله أعلم.
الرابعة قوله تعالى: {رِجْسٌ} قال ابن عباس في هذه الآية: {رِجْسٌ} سخط وقد يقال للنَّتْن والعَذِرة والأقذار رجسٌ.
والرِّجز بالزاي العذاب لا غير، والرِّكْسُ العَذِرة لا غير.
والرِّجسُ يقال للأمرين.
ومعنى {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} أي بحمله عليه وتزيينه.
وقيل: هو الذي كان عَمِل مبادىء هذه الأُمور بنفسه حتى اقتدى به فيها.
الخامسة قوله تعالى: {فاجتنبوه} يريد أبعدوه واجعلوه ناحية؛ فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأُمور، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأُمة، فحصل الاجتناب في جهة التحريم؛ فبهذا حرّمت الخمر.
ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة «المائدة» نزلت بتحريم الخمر، وهي مدنية من آخر ما نزل، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ} [الأنعام: 145] وغيرها من الآي خبرًا، وفي الخمر نَهْيا وزَجْرًا، وهو أقوى التحريم وأوكده.
روى ابن عباس قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض، وقالوا حُرِّمت الخمر، وجعلت عدلًا للشِّرك؛ يعنى أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شِرْكٌ.
ثم علق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فعلق الفلاح بالأمر، وذلك يدل على تأكيد الوجوب.
والله أعلم.
السادسة فَهِمَ الجمهورُ من تحريم الخمر، واستخباث الشرع لها، وإطلاق الرِّجس عليها، والأمر باجتنابها، الحكم بنجاستها.
وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمُزَنيّ صاحب الشافعي، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها.
وقد استدل سعيد بن الحداد القرويّ على طهارتها بسفكها في طرق المدينة؛ قال: ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق.
والجواب؛ أن الصحابة فعلت ذلك؛ لأنه لم يكن لهم سُرُوب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كُنُف في بيوتهم.
وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكُنُف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور.
وأيضًا فإنه يمكن التحرز منها؛ فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرًا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرّز عنها هذا مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طُرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك.
والله أعلم.
فإن قيل؛ التَّنجِيس حكم شرعيّ ولا نص فيه، ولا يلزم من كون الشيء محرّمًا أن يكون نجسًا؛ فكم من محرّم في الشرع ليس بنجس؛ قلنا: قوله تعالى: {رِجْسٌ} يدل على نجاستها: فإن الرّجس في اللسان النجاسة، ثم لو التزمنا ألاّ نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصًّا لتعطلت الشريعة؛ فإن النصوص فيها قليلة؛ فأيُّ نص يوجد على تنجيس البول والعَذِرة والدّم والميتة وغير ذلك؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة.
وسيأتي في سورة «الحج» ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
السابعة قوله: {فاجتنبوه} يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه؛ لا بشرب ولا بيع ولا تخلِيل ولا مداواة ولا غير ذلك.
وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب.
روى مسلم عن ابن عباس: أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رَاوِية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل علمت أن الله حرّمها» قال: لا، قال: فسَارَّ رجلًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِم سَارَرْتَه» قال؛ أمرته ببيعها؛ فقال: «إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها» قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فهذا حديث يدل على ما ذكرناه؛ إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال في الشاة الميتة: «هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» الحديث.
الثامنة أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العَذِرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله؛ ولذلك والله أعلم كره مالك بيع زِبل الدواب، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة؛ والقياس ما قاله مالك، وهو مذهب الشافعي، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك.
التاسعة ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها؛ لأن الخلّ مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرًا على مسلم أنه أتلف له مالًا.
وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرًا ليتيم، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال: «لا» ونهى عن ذلك.
ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي، وإليه مال سُحْنُون بن سعيد.
وقال آخرون: لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها؛ وهو قول الثوريّ والأُوزاعيّ والليث بن سعد والكوفيين.
وقال أبو حنيفة: إن طرح فيها المِسك والملح فصارت مُرَبَّى وتحوّلت عن حال الخمر جاز.
وخالفه محمد بن الحسن في المربَّى وقال: لا تُعالجَ الخمر بغير تحويلها إلى الخلّ وحده.
قال أبو عمر: احتج العراقيون في تخليل الخمر بأبي الدرداء؛ وهو يُروى عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي الدرداء من وجه ليس بالقويّ أنه كان يأكل المربَّى منه، ويقول: دبغته الشمس والملح.
وخالفه عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص في تخليل الخمر؛ وليس في رأي أحد حجة مع السنة.
وبالله التوفيق.
وقد يحتمل أن يكون المنع من تخليلها كان في بدء الإسلام عند نزول تحريمها؛ لئلا يستدام حبسها لقرب العهد بشربها، إرادة لقطع العادة في ذلك.
وإذا كان كذلك لم يكن في النهي عن تخليلها حينئذٍ، والأمر بإراقتها ما يمنع من أكلها إذا خُلّلت.
وروى أشهب عن مالك قال: إذا خلّل النصرانيّ خمرًا فلا بأس بأكله، وكذلك إن خَلّلها مسلم واستغفر الله؛ وهذه الرواية ذكرها ابن عبد الحكَم في كتابه.
والصحيح ما قاله مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب أنه لا يحل لمسلم أن يعالج الخمر حتى يجعلها خَلًا ولا يبيعها، ولكن ليُهرِيقها.
العاشرة لم يختلف قول مالك وأصحابه أن الخمر إذا تخللت بذاتها أن أكل ذلك الخلّ حلال.
وهو قول عمر بن الخطاب وقَبِيصة وابن شهاب وربيعة وأحد قولي الشافعي، وهو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه.
الحادية عشرة ذكر ابن خُوَيْزِمَنْدَاد أنها تُملك، ونزع إلى ذلك بأنه يمكن أن يزال بها الغَصَص، ويطفأ بها حريق؛ وهذا نقل لا يعرف لمالك بل يُخرّج هذا على قول من يرى أنها طاهرة.
ولو جاز ملكها لما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإراقتها.
وأيضًا فإن الملك نوع نفع وقد بطل بإراقتها.
والحمد لله.
الثانية عشرة هذه الآية تدل على تحريم اللعب بالنّرد والشِّطْرَنج قمارًا أو غير قمار؛ لأن الله تعالى لما حرم الخمر أخبر بالمعنى الذي فيها فقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ}.
ساعة تسمع كلمة: «إنما» فاعلم أنهم يسمونها في اللغة «أداة قصر» كقولنا: إنما زيد مجتهد، وهذا يعني أننا قَصِرَنْا زيدًا على الاجتهاد. لكن إذا قلنا: إنما المجتهد زيد، فنحن في هذه الحالة قَصَرْنا الاجتهاد على زيد. وساعة تقصر إنسانًا على وصف فذلك يسمونه: «قصر موصوف على صفة»، وعندما نقول: إنما زيد شاعر. فهذا يعني أن زيدًا شاعر فقط وهو ليس بكاتب أو خطيب. أما إن قلت: إنما الشاعر زيد، فهذا يعني أنه لا يوجد شاعر إلا زيد؛ فكأنك نفيت عن الآخرين أنهم شعراء، وأن زيدًا فقط هو الشاعر ويحتمل أن يكون كاتبًا وخطيبًا وعالمًا مع كونه شاعرًا. إذن فساعة ترى «إنما» فاعرف أنها أداة من أدوات القصر.
والحق سبحانه يقول هنا: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
أي أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام كلها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو الشيء الرديء الخبيث القذر. والقذارة والخبث هما من الأمور التي قد تكون حسية مثل الخمر، وقد تكون معنوية كالأنصاب والأزلام؛ وجمع الحق سبحانه في هذه الآية الأمرين معًا. ولم يقل إن الخمر هي عصير العنب أو عصير التفاح، إنما جاء بالخمر التي تشمل كل ما يخامر العقل ويستره. وتعجب بعض العلماء من أن هذه الآية نزلت في البلاد التي ليس فيها شيء من عصير العنب، ذلك أنهم ظنوا أن عصير العنب فقط هو الذي يستر العقل، لكن الحق جاء بالتحريم الشامل لكل ما يستر العقل. لماذا إذن تكون الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسًا من عمل الشيطان؟