فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر}.
اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بيانًا شافيًا فنزلت الآية في سورة البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير} الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر والميسر بيانًا شافيًا فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال: اللهم بين لنا في الخمر والميسر بيانًا شافيًا فنزلت الآية التي في المائدة {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا أخرجه الترمذي من طريقين: وقال رواية أبي ميسرة هذه أصح وأخرجه أبو داود والنسائي.
وروى مصعب بن سعيد عن أبيه قال: صنع رجل من الأنصار طعامًا فدعانا فشربنا وذلك قبل أن تحرم زاد حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقالت الأنصار نحن أفضل منكم فقال سعد بن أبي وقاص: المهاجرون خير منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى جمل فضرب به أنف سعد ففزره فأتى سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول فعل بي هذا فلان أخي وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون} وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} يعني إنما يزين لكم الشيطان شرب الخمر والقمار بالقداح وهو الميسر ويحسن ذلك لكم إرادة أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بسبب شرب الخمر لأنها تزيل عقل شاربها فيتكلم بالفحش وربما أفضى ذلك إلى المقاتلة وذلك سبب إيقاع العداوة والبغضاء بين شاربيها.
وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقمر فيقعد حزينًا سليبًا ينظر إلى ماله في يد غيره فيورثه ذلك العداوة والبغضاء فنهى الله عن ذلك وتقدم ما فيه والله أعلم بما يصلح خلقه فظهر بذلك أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وهذا فيما يتعلق بأمر الدنيا وفيهما مفاسد تتعلق بأمر الدين وهي قوله تعالى: {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكر الله وعن الصلاة.
وقد صح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» أخرجاه في الصحيحين وزاد الترمذي وأبو داود: ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام.
الفرق بالتحريك إناء يسع ستة عشر رطلًا، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لن يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا فإن تاب تاب الله عليه فأن عاد الرابعة لم يقبل الله له أربعين صباحًا فإنه تاب لم يتب الله عليه وسقاه الله من نهر الخبال» قالوا يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال: صديد أهل النار أخرجه الترمذي.
وقال: حديث حسن وأخرجه النسائي وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» أخرجه أبو داود. اهـ. باختصار يسير.

.قال أبو السعود:

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية، وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما، وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله عليه الصلاة والسلام: «شارب الخمر كعابد الوثن» وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية.
وقوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية.
ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإن الميسر إن كان اللاعب به غالبًا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبًا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبًا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك.
وقد شاهدنا كثيرًا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب فرزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الأخبار «الصادحة» بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما.
وخص الصلاة من الذكر بالإفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيمًا لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعارًا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الإيقاع في الكفر الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {إنّما يريد الشيطان} بيان لكونها من عمل الشيطان.
ومعنى يريد يحبّ وقد تقدّم بيان كون الإرادة بمعنى المحبّة عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلّوا السبيل} في سورة [النساء: 44].
وتقدّم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} في هذه السورة [64].
وقوله: {في الخمر والميسر} أي في تعاطيهما، على متعارف إضافة الأحكام إلى الذوات، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر، والغيظ والحسرة للخاسر، وما ينشأ عن ذلك من التشاتم والسباب والضرب.
على أنّ مجرّد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة، لأنّ الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمْر أمّة بين أفرادها البغضاء.
وفي الحديث: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا».
و«في» من قوله: {في الخمر والميسر} للسبيبة أو الظرفية المجازية، أي في مجالس تعاطيهما.
وأمّا الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة فلِما في الخمر من غيبوبَة العقل، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلّب الربح.
وهذه أربع علل كلّ واحدة منها تقتضي التحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مُقتضيًا تغليظ التحريم.
ويلحق بالخمر كلّ ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة.
ويلحق بالميسر كلّ ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك أنواع القمار كلّها أمّا ما كان من اللهو بدون قِمار كالشطرنج دون قِمار، فذلك دون الميسر، لأنّه يندر أن يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأنّه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالبًا، فتدخل أحكامه تحت أدلّة أخرى.
والذّكر المقصود في قوله: {عن ذكر الله} يحتمل أنّه من الذكر اللسان فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم، لأنّه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماععِ خُطبه، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقّوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئًا كثيرًا فيه ما يجب على المكلّف معرفته.
فالسيء الذي يصدّ عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحقّ أن يحرّم تعاطيه، ويحتمل أنّ المراد به الذكر القلبي وهو تذكّر ما أمر الله به ونهَى عنه فإنّ ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب: أفضلُ من ذكر الله باللسان ذِكرُ الله عند أمره ونهيه.
فالشيء الذي يصدّ عن تذكّر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي.
وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنّه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله: {وعن الصلاة}. اهـ.

.قال الفخر:

ولما بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين.
قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} روي أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللّهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فلما نزلت هذه الآية قال عمر: انتهينا يا رب.