فصل: من فوائد ابن العربي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَسْكَرُوا»، فَقَوْلُهُ: «اشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ» مُنْصَرِفٌ إلَى مَا كَانَ حَظَرَهُ مِنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ، فَأَبَاحَ الشُّرْبَ مِنْهَا بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: «اشْرَبُوا الْمَاءَ وَلَا تَسْكَرُوا»؛ إذْ كَانَ الْمَاءُ لَا يُسْكِرُ بِوَجْهٍ مَا؟ فَثَبَتَ أَنَّ مُرَادَهُ إبَاحَةٌ شُرْبِ قَلِيلِ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ شُرْبِ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا بَعْضَ مَا رُوِيَ فِيهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَتَّاتُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانِ الْخَبَّازُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدُ قَالَ: «كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسْقِيَنَا النَّبِيذَ الشَّدِيدَ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنٍ الْفَرْضِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقِطَّانِ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ يُحَدِّثنَا فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَيَّاشٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: شَرِبْنَا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ نَبِيذًا صُلْبًا آخِرُهُ يُسْكِرُ؛ وَحَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: شَهِدْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ طُعِنَ وَقَدْ أُتِيَ بِالنَّبِيذِ فَشَرِبَهُ، قَالَ: عَجِبْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِيَحْيَى: «اُسْكُتْ يَا صَبِيُّ».
وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعِيدٍ وَعَلْقَمَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا شَرِبَ مِنْ شَرَابِ عُمَرَ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إنَّمَا شَرِبْت مِنْ شَرَابِك فَدَعَا عُمَرُ شَرَابَهُ فَكَسَّرَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ وَقَالَ: «مَنْ رَابَهُ مِنْ شَرَابِهِ شَيْءٌ فَلِيُكَسِّرْهُ بِالْمَاءِ»، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ فِيهِ: إنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَمَا ضَرَبَ الْأَعْرَابِيَّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَعْمَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ «أُمِّ سُلَيْمٍ وَأَبِي طَلْحَةَ: أَنَّهُمَا كَانَا يَشْرَبَانِ نَبِيذَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ يَخْلِطَانِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا طَلْحَةَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ هَذَا فَقَالَ: إنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِلْعَوَزِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا نَهَى عَنْ الْإِقْرَانِ».
وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِي كِتَابِنَا «الْأَشْرِبَةِ» وَكَرِهْت التَّطْوِيلَ بِإِعَادَتِهِ هُنَا.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَحْرِيمُهُ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي يُبِيحُهَا أَصْحَابُنَا فِيمَا نَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُمْ تَحْرِيمُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَمَا لَمْ يُرَدَّ مِنْ الْعَصِيرِ إلَى الثُّلُثِ؛ إلَى أَنْ نَشَأَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ تَصَنَّعُوا عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالتَّشْدِيدِ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَوْ كَانَ النَّبِيذُ مُحَرَّمًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى كَانَتْ بِهِ؛ إذْ كَانَتْ عَامَّةُ أَشْرِبَتِهِمْ نَبِيذَ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ، كَمَا وَرَدَ تَحْرِيم الْخَمْرِ وَقَدْ كَانَتْ بَلْوَاهُمْ بِشُرْبِ النَّبِيذِ أَعَمَّ مِنْهَا بِشُرْبِ الْخَمْرِ لِقِلَّتِهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مُوجِبِي تَحْرِيمَهُ.
وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِهِ فِي «الْأَشْرِبَةِ».
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «الشَّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ» وَقَالَ عُثْمَانُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: «النَّرْدُ».
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: «الْقِمَارُ كُلُّهُ مِنْ الْمَيْسِرِ».
وَأَصْلُهُ مِنْ تَيْسِيرِ أَمْرِ الْجَزُورِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْقِمَارِ فِيهِ، وَهُوَ السِّهَامُ الَّتِي يُجِيلُونَهَا، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحَقَّ مِنْهُ مَا تُوجِبُهُ عَلَامَةُ السَّهْمِ، فَرُبَّمَا أَخْفَقَ بَعْضُهُمْ حَتَّى لَا يَحْظَى بِشَيْءٍ وَيَنْجَحَ الْبَعْضُ فَيَحْظَى بِالسَّهْمِ الْوَافِرِ؛ وَحَقِيقَتُهُ تَمْلِيكُ الْمَالِ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ.
وَهُوَ أَصْلٌ فِي بُطْلَانِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْأَخْطَارِ، كَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَعُقُودِ الْبَيَّاعَاتِ وَنَحْوِهَا، إذَا عُلِّقَتْ عَلَى الْأَخْطَارِ، بِأَنْ يَقُولَ: «قَدْ بِعْتُك إذَا قَدِمَ زَيْدٌ» و«وَهَبْته لَك إذَا خَرَجَ عَمْرٌو» لِأَنَّ مَعْنَى إيسَارِ الْجَزُورِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحَقَّ مِنْ الْجَزُورِ كَذَا، فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ السَّهْمِ مِنْهُ مُعَلَّقًا عَلَى الْخَطَرِ.
وَالْقُرْعَةُ فِي الْحُقُوقِ تَنْقَسِمُ إلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَطْيِيبُ النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ إحْقَاقِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَرِعِينَ وَلَا بَخْسِ حَظٍّ مِمَّا اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ، مِثْلُ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ وَفِي قَسْمِ النِّسَاءِ وَفِي تَقْدِيمِ الْخُصُومِ إلَى الْقَاضِي.
وَالثَّانِي: مِمَّا ادَّعَاهُ مُخَالِفُونَا فِي الْقُرْعَةِ بَيْنَ عَبِيدٍ أَعْتَقَهُمْ الْمَرِيضُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، فَقَوْلُ مُخَالِفَيْنَا هُنَا مِنْ جِنْسِ الْمَيْسِرِ الْمَحْظُورِ بِنَصِّ الْكِتَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِ الْحُرِّيَّةِ عَمَّنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقُرْعَةِ، وَلِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ إحْقَاقِ بَعْضِهِمْ وَبَخْسِ حَقِّهِ حَتَّى لَا يَحْظَى مِنْهُ بِشَيْءٍ وَاسْتِيفَاءِ بَعْضِهِمْ حَقَّهُ وَحَقَّ غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيْسِرِ فِي الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْأَنْصَابُ فَهِيَ مَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ مِنْ صَنَمٍ أَوْ حَجَرٍ غَيْرِ مُصَوَّرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ مَا يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا الْأَزْلَامُ فَهِيَ الْقِدَاحُ، وَهِيَ سِهَامٌ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهَا عَلَامَاتِ «افْعَلْ» و«لَا تَفْعَلْ» وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَعْمَلُونَ فِي سَائِرِ مَا يَهْتَمُّونَ بِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ تِلْكَ السِّهَامُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الْأَنْسَابِ أَيْضًا إذَا شَكُّوا فِيهَا، فَإِنْ خَرَجَ «لَا» نَفَوْهُ، وَإِنْ خَرَجَ «نَعَمْ» أَثْبَتُوهُ؛ وَهِيَ سِهَامُ الْمَيْسِرِ أَيْضًا.
وَأَمَّا قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فَإِنَّ الرِّجْسَ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ إمَّا لِنَجَاسَتِهِ وَإِمَّا لِقُبْحِ مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ تَعْظِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ «رِجْسٌ نَجِسٌ» فَيُرَادُ بِالرِّجْسِ النَّجِسُ، وَيَتْبَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَقَوْلِهِمْ: «حَسَنٌ بَسَنٌ» و«عَطْشَانُ نَطْشَانَ» وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
وَالرِّجْزُ قَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ الْعَذَابُ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ كَشَفْت عَنَّا الرِّجْزَ} أَيْ الْعَذَابَ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي مَعْنَى الرِّجْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَقَوْلُهُ: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِهِ، فَأَكَّدَ بِذَلِكَ أَيْضًا حُكْمَ تَحْرِيمِهَا؛ إذْ كَانَ الشَّيْطَانُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْمَعَاصِي وَالْقَبَائِحِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَجَازَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الشَّيْطَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ؛ إذْ كَانَ هُوَ الدَّاعِيَ إلَيْهِ وَالْمُزَيِّنَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَغْرَى غَيْرَهُ بِضَرْبِ غَيْرِهِ أَوْ بِسَبِّهِ وَزَيَّنَهُ لَهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ هَذَا مِنْ عَمَلِك؟.
قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةُ؛ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يَدْعُو الشَّيْطَانُ إلَيْهِ وَيُزَيِّنُهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى يَسْكَرَ مِنْهَا شَارِبُهَا فَيُقْدِمُ عَلَى الْقَبَائِحِ وَيُعَرْبِدُ عَلَى جُلَسَائِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ؛ وَكَذَلِكَ الْقِمَارُ يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ، قَالَ قَتَادَةُ: «كَانَ الرَّجُلُ يُقَامِرُ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ فَيُقْمَرُ وَيَبْقَى حَزِينًا سَلِيبًا فَيُكْسِبُهُ ذَلِكَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ».
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ إذْ كَانَ السُّكْرُ مِنْهُ يُوجِبُ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مِثْلُ مَا يُوجِبُهُ السُّكْرُ فِي الْخَمْرِ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى لَعَمْرِي مَوْجُودٌ فِيمَا يُوجِبُ السُّكْرَ مِنْهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا لَا يُوجِبُهُ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ مَا يُوجِبُ السُّكْرَ مِنْهُ، وَأَمَّا قَلِيلُ الْخَمْرِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً فِيهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ تَقْتَضِي تَحْرِيمَ قَلِيلِ النَّبِيذِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآيتين:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ}.
فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلَى قَوْلِهِ: {مُنْتَهُونَ}؛ فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «انْتَهَيْنَا. انْتَهَيْنَا».
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ.
وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا، وَقَدْ انْتَشَيَا، فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ اسْمِ الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ: وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ: فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ}: وَهُوَ النَّجَسُ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ.
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، الرِّجْسِ النَّجِسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ».
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ، فَيَكُفُّ عَنْهَا، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِاجْتِنَابِهَا، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لاسيما وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ الْفَلَاحُ.
قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا، فَعَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ آثَارَ مَا فَعَلُوا، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ} الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ، وَرُوِيَ: بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ، فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا.
حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، «وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ: أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ؛ فَكُسِرَتْ الدِّنَانُ، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ»، وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ.
قَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ. اهـ.