فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن أول مطلوب الإيمان هو الاعتقاد في الإله الواحد، وأن نكف عن عبادة الأوثان والأصنام، والطلب- كما نعرف- هو أن تنشيء كلامًا تطلب به من مخاطبك أن يفعل شيئًا لم يكن مفعولًا وقت طلبه. فإذا أوضح الحق: لا تعبد الأوثان، فهذا طلب الفعل، وهو أن نكف عن عبادة الأوثان. وحين يأمرنا الحق بالصلاة والصوم والزكاة وحج البيت، فهذا طلب لأفعال. وطلب الفعل يقال له: «أمر». وطلب الكف عن فعل يقال له: «نَهْي».
وأنت إذا نظرت إلى كل التكاليف في الإسلام، تجدها لم تأت مرة واحدة، وإنما جاءت على مدار ثلاثة وعشرين عامًا. فعندما جاء الإسلام آمن به أناس، ولم يكن قد صدر إليهم تنفيذ أي من الأحكام التي وردت على مدار سنوات الرسالة، وإنما كان المطلوب منهم بعضًا يسيرًا منها، وكانوا يؤدونها، منهم من بلغه فقط ضرورة الإيمان بالإله الواحد، وآمن بذلك ثم وافاه الأجل وكانت له الجنة.
ومنهم من امتدت حياته، فزادت عليه أحكام جديدة فنفذها، وكان إسلامه بذلك إسلامًا تامًا.
إذن، فالتمام في الإسلام هو تنفيذ كل عمل جاء في الأحكام التي أدركها المسلم. فإن لم يكن المسلم قد أدرك إلا حكمًا واحدًا ونفذه فله كل ما وعد الحق به. ومثال ذلك «مخيريق اليهودي» الذي أسلم وأوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما كان يوم أُحُد، وقف في قومه قائلًا: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لَحَقُّ. فلم يجيبوه، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء. ثم خرج إلى القتال فقاتل حتى استشهد. ولم يكن قد نفذ أي حكم من أحكام الإسلام، لكنه قاتل فنال شرف الشهادة، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُخَيْريق خير يهود».
ولابد لنا أن نفرق دائمًا بين «أركان الإسلام» والمطلوب من المسلم. ونعلم جميعًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمس: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان».
هذه هي أركان الإسلام. أما المسلم فقد يختلف المطلوب منه، فالمطلوب من المسلم أن يشهد مرة واحدة في حياته أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ومطلوب منه دائمًا أن يقيم الصلاة مهما تكن حالته. لكن فرض الزكاة قد يسقط عنه إن كان لا يملك مالًا. وقد يسقط عنه الصوم إن كان مريضًا مرضا لا يرجى شفاؤه أو كان كبير السن لا يقدر على الصوم وعليه فدية طعام مسكين، أما المريض الذي يرجى شفاؤه وكذلك المسافر فيقضيان الصوم بعد زوال العذر ومثلهما الحائض والنفساء. وقد يسقط عنه الحج لأنه لا يملك المال الكافي. هكذا تختلف أركان الإسلام من مسلم لآخر، وهكذا نعرف أن من عاش في بدايات الإسلام ونفذ القليل من الأحكام التي نزلت حتى مات أو استشهد، فقد أدى مطلوب الإسلام منه.
وعندما نزلت مسألة النهي عن الخمر، والميسر، ذهب أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن مصير زملائهم وإخوتهم في الإيمان الذين ماتوا أو استشهدوا قبل أن ينزل تحريم الخمر والميسر. ومجرد السؤال هو دليل على اليقظة الإيمانية، فالإنسان لا يكون مؤمنًا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (93):

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه، وهو من مات منهم وهو يفعلهما، قال جوابًا لذلك السؤال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا} أي تصديقًا لإيمانهم {الصالحات جناح} فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219]، فقال الناس: لم يحرم علينا، إنما قال: إن فيهما إثمًا، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة: 90]، فقالوا: انتهينا يا رب! وقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسًا من مل الشيطان! فأنزل الله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم» ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، وإذا منادٍ ينادي: ألا! إن الخمر قد حرمت، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه: اخرج فاهرقها، فهرقتها، فقال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه.
فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال: {فيما طعموا} أي مأكلًا كان أو مشربًا، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال: {إذا ما اتقوا} أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرمًا.
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال: {وآمنوا} ولما ذكر الإقرار باللسان، ذكر مصداقه فقال: {وعملوا} أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقًا {الصالحات ثم اتقوا} أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه {وآمنوا} أي بأنه من عند الله، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه.
ولما كان قد نفى الجناح أصلًا ورأسًا، شرط الإحسان فقال: {ثم اتقوا وأحسنوا} أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة، وهي الغنى عن رؤية غير الله، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص- كما مضى فقال: {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}، وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به- والله الموفق؛ ولما كان التقدير: فإن الله يحب المتقين المؤمنين، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين}. اهـ.

.قال الفخر:

روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة: إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم، فنزلت هذه الآية والمعنى: لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة، وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك، كما قال: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ وأنثى} [آل عمران: 195]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

قال الفخر:
الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب، فكذلك يجب أن يكون الطُّعْمُ خلاف الشرب، إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات، كما قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى} [البقرة: 249] وعلى هذا يجوز أن يكون قوله: {جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} أي شربوا الخمر، ويجوز أن يكون معنى الطُّعْمُ راجعًا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب، وقد تقول العرب: تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعًا إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معًا. اهـ.
قال الفخر:
زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بيّن في الخمر أنها محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة، بيّن في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى، والإحسان إلى الخلق.
قالوا: ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم، لأنه لو كان المراد ذلك لقال: ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} [البقرة: 143] ولكنه لم يقل ذلك، بل قال: {لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} إلى قوله: {إذا ما اتقوا وآمنوا} ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي.
واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم: إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي.
فجوابه ما روى أبو بكر الأصم: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرّم الخمر وهم يطعمونها، فأنزل الله هذه الآيات، وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. اهـ.
قال الفخر:
إنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والإحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه قال الأكثرون: الأول: عمل الاتقاء، والثاني: دوام الاتقاء والثبات عليه، والثالث: اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
القول الثاني: أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية، والثاني: اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية.
الثالث: اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم، القول الثالث: اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر، القول الرابع: ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال: التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى الثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق.
والقول الخامس: أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الإيمان والتقوى.
فإن قيل: لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الإيمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئًا من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول، بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى، إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز.
قلنا: ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمدًا لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان، ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح، وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول: ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنًا محسنًا تريد أن زيدًا إن بقي مؤمنًا محسنًا فإنه غير مؤاخذ بما فعل. اهـ.
وقال الفخر:
قوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين}
المعنى أنه تعالى لما جعل الإحسان شرطًا في نفي الجناح بيَّن أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط، بل وفي أن يحبه الله، ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات، وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده. اهـ.