فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، ونزلت {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] ولما كان أمر القبلة خطيرًا ومعلمًا من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها، و«الجناح» الإثم والحرج، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي و{طعموا} معناه ذاقوا فصاعدًا في رتب الأكل والشرب وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق والتكرار في قوله: {اتقوا} يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك، وهو الإحسان، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن، والثانية للحال، والثالثة للاستقبال، وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليست هذه الآية وقفًا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيًا أحيانًا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرًا وعمرّ، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء، فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه، فقدم، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد، قال: بل شهيد: قال: قد أديت شهادتك، فصمت الجارود ثم غدا على عمر، فقال أقم على قدامة كتاب الله، فقال له عمر: ما أراك إلا خصمًا وما شهد معك إلا رجل واحد، قال الجارود: إني أنشدك الله، قال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني، فقال أبو هريرة: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله، فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني، قال عمر لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} الآية، فقال له عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، ثم حده عمر وكان مريضًا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضًا، فأصبح يومًا وقد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعًا، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبًا له، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال: عجلوا عليَّ بقدامة، فقد أتاني آت في النوم فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبي فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
فيه تسع مسائل:
الأُولى قال ابن عباس والبَرَاء بن عازب وأنس بن مالك إنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر؟ ونحو هذا فنزلت الآية.
روى البخاريّ عن أنس قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر مناديًا ينادي، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت! قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي أَلاَ إنّ الخمر قد حُرّمت؛ فقال: اذهب فأَهرِقها وكان الخمر من الفَضِيخ قال: فجرت في سِكك المدينة؛ فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية.
الثانية هذه الآية وهذا الحديث نظير سؤالهم عمن مات إلى القبلة الأُولى فنزلت {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
ومن فعل ما أُبيح له حتى مات على فعله لم يكن له ولا عليه شيء؛ لا إثم ولا مؤاخذة ولا ذم ولا أجر ولا مدح؛ لأن المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع؛ وعلى هذا فما كان ينبغي أن يُتخوّف ولا يُسأل عن حال من مات والخمر في بطنه وقت إباحتها، فإما أن يكون ذلك القائل غَفَل عن دليل الإباحة فلم يخطر له، أو يكون لغلبة خوفه من الله تعالى، وشفقته على إخوانه المؤمنين تَوهَّم مؤاخذةً ومعاقبةً لأجل شرب الخمر المتقدّم؛ فرفع الله ذلك التوهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية.
الثالثة هذا الحديث في نزول الآية فيه دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا أسكر خَمْر؛ وهو نصٌّ ولا يجوز الاعتراض عليه؛ لأن الصحابة رحمهم الله هم أهل اللسان، وقد عَقَلوا أن شرابهم ذلك خمر إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره؛ وقد قال الحَكَميّ:
لنا خَمرٌ وليست خمر كَرْمٍ ** ولكن مِن نِتاجِ الباسِقاتِ

كِرامٌ في السماءِ ذهبن طُولا ** وفات ثِمارها أيدِي الجناةِ

ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النَّسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان عن الأعمش عن مُحارِب بن دِثار عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الزبيب والتمر هو الخمر» وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحسبك به عالمًا باللسان والشرع خطب على منبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس؛ أَلاَ إنه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير؛ والخمر ما خامر العقل.
وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر؛ يخطب به عمر بالمدينة على المنبر بمحضر جماعة الصحابة، وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه.
وإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسم الخمر، وإنما يسمى نبيذًا؛ وقال الشاعر:
تركتُ النَّبِيذ لأهل النبِيذِ ** وصِرتُ حلِيفًا لِمن عابَه

شَرابٌ يُدنِّس عِرْضَ الفَتَى ** ويَفتحُ للشَّر أبوابَه

الرابعة قال الإمام أبو عبد الله المازَرِيّ: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أنّ كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلًا كان أو كثيرًا نِيئا، كان أو مطبوخًا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأنّ من شرب شيئًا من ذلك حُدَّ؛ فأما المستخرج من العنب المسكر النِّيء فهو الذي انعقد الإجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه.
وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه.
وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الإسكار؛ وفي المطبوخ المستخرج من العنب؛ فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزّبيب النِّيء؛ فأما المطبوخ منهما، والنِّيء والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الإسكار.
وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصَر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل؛ فيرى أن سُلاَفة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزّبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسّته النَّارُ مسًّا قليلًا من غير اعتبار بحدّ؛ وأما النِّيء منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحدّ فيه؛ وهذا كله ما لم يقع الإسكار، فإن وقع الإسكار استوى الجميع.
قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس أحمد رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة؛ فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصَر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه؛ فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبًا للعقل؟ فلابد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد؛ فحينئذ يقال لهم: كلّ ما قدّرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضًا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرّد الاسم إذا سلم ذلك.
وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس؛ لأن الفرع فيه مساوٍ للأصل في جميع أوصافه؛ وهذا كما يقوله في قياس الأمة على العبد في سراية العتق.
ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجليّ المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأُمة، لأحاديث لا يصح شيء منها على ما قد بيّن عِلَلها المحدّثون في كتبهم، وليس في الصحاح شيء منها.
وسيأتي في سورة «النحل» تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
الخامسة قوله تعالى: {طعموا} أصل هذه اللفظة في الأكل؛ يقال: طَعِمَ الطّعامَ وشَرِب الشَّرَاب، لكن قد تجوّز في ذلك فيقال: لم أطعم خُبزًا ولا ماء ولا نومًا؛ قال الشاعر:
نَعَامًا بِوَجْرة صُعْر الخُدو ** دِ لا تَطْعَمُ النومَ إلاّ صِيَامَا

وقد تقدّم القول في «البقرة» في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} بما فيه الكفاية.
السادسة قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: تضمنت هذه الآية تناول المباح والشهوات، والانتفاع بكل لذيذ من مَطْعَم ومَشْرَب ومَنْكَح وإن بولغ فيه وتنوهي في ثمنه.
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} ونظير قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32].
السابعة قوله تعالى: {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين}.
فيه أربعة أقوال: الأوّل أنه ليس في ذكر التقوى تكرار؛ والمعنى اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها؛ والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم؛ والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء.
والثاني اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرّمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربَها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم، وأحسنوا العمل.
الثالث اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانًا، ومعنى الثالث ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تَنَفَّلُوا.
وقال محمد بن جَرير: الاتقاء الأوّل هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول، والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والثالث الاتقاء بالإحسان، والتقرّب بالنوافل.
الثامنة قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين} دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات؛ فضله بأجر الإحسان.