فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى.
وفيه الغث والسمين.
وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي: إن الشرط الأول: يتعلق بالزمان الماضي.
الثاني: يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله.
والثالث: يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد.
واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ} فإن الإحسان إذا كان متعديًا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضًا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت، قم لو سلم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى.
ولو صرح سبحانه فقال: اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر، وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه.
والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها.
والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى، وقيل: المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولًا مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك.
وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك.
وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة.
وهذا مراد من قال: إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل: إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها، وقيل: باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب.
ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه» وقيل: باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيًا من العقاب والشبهات توقيًا من الوقوع في الحرام.
وبعض المباحات حفظًا للنفس عن الخسة وتهذيبًا لها عن دنس الطبيعة، وقيل: المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر، وقيل: إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعني بقوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ} الخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز وجل: {والله يُحِبُّ المحسنين}.
وفي هذا النظم نتيجة مما رواه الترمذي وابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى».
وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر.
وجملة {والله يُحِبُّ المحسنين} على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.
هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظنّ بعض المسلمين أنّ شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبّس بإثم لأنّ الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنّها رجس من عمل الشيطان.
فقد كان سببُ نزول هذه الآية ما في «الصحيحين» وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء بن عازب، وابن عبّاس، أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كيفَ بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمرَ أوْ قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر.
فأنزل الله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية.
وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصمّ أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القِمار، وكيف بالغائبين عنّا في البلدان لا يشعرون أنّ الله حرّم الخمر وهم يَطعَمُونها.
فأنزل الله هذه الآيات.
وقد يَلُوح ببادىء الرأي أنّ حال الذين تُوُفُّوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقًا بأن يَسأل عنه الصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأنّ الله لا يؤاخذ أحدًا بعمل لم يكن محرّمًا من قبل فعله، وأنّه لا يؤاخذ أحدًا على ارتكابه إلاّ بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر ممّا ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلمّا نزل في الخمر والميسر أنّهما رجس من عمل الشيطان خَشُوا أن يكون للشيطان حظّ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتُوفُّوا قبل الإقلاع عن ذلك أوْ ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدّة إشفاقهم على إخوانهم.
كما سأل عبد الله بن أمّ مكتوم لمّا نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدُون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} [النساء: 95] فقال: يا رسول الله، فكيف وأنا أعمَى لا أبصر فأنزل الله: {غيرَ أولِي الضّرر} [النساء: 143].
وكذلك ما وقع لمّا غُيّرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس: فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس، فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليُضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، أي صلاتَكم فكان القصد من السؤال التثبّت في التفقّه وأن لا يتجاوزُوا التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.
ونفيُ الجناح نفي الإثم والعصيان.
و«ما» موصولة.
و{طَعموا} صلة.
وعائد الصلة محذوف.
وليست «ما» مصدرية لأنّ المقصود العفو عن شيء طعموهُ معلوممٍ من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجُناح هو على تقدير: في طَعْم ما طعموه.
وأصل معنى {طَعِموا} أنّه بمعنى أكلوا، قال تعالى: {فإذا طعِمتم فانتشروا} [الأحزاب: 259].
وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طَعام.
وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عُطف في قوله تعالى: {فانظُر إلى طعامك وشَرابك لم يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259].
ويدلّ لذلك استثناء المأكولات منه في قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرّمًا على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقًا أهلّ لغير الله به} [الأنعام: 145].
ويقال: طَعِم بمعنى أذَاق ومصدره الطُّعْم بضمّ الطاء اعتبروه مشتَقًّا من الطَّعْم الذي هو حاسّة الذوق.
وتقدّم قوله تعالى: {ومن لم يطْعَمه فإنّه منّي} [البقرة: 249]، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله: {فمن شرب منه} [البقرة: 249].
ويقال: وجَدت في الماء طعْم التراب.
ويقال تغيّر طعم الماء، أي أسِنَ.
فمن فصاحة القرآن إيراد فعل {طَعِمُوا} هنا لأنّ المراد نفي التَّبِعَة عمَّن شربوا الخمر وأكلوا لحم المَيْسر قبل نزول آية تحريمهما.
واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب.
وإذ قد عبّر بصيغة المضي في قوله: {طعموا} تعيّن أن يكون {إذا} ظرفًا للماضي، وذلك على أصحّ القولين للنحاة، وإن كان المشهور أنّ «إذا» ظرف للمستقبل، والحقّ أنّ «إذا» تقع ظرفًا للماضي.
وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في «مغني اللبيب».
وشاهده قوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92]، وقوله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} [الجمعة: 11]، وآيات كثيرة.
فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتّقوا، ويؤوّل معنى الكلام: ليس عليهم جناح لأنّهم آمنوا واتّقوا فيما كان محرّمًا يومئذٍ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلاّ قبل تحريمهما.
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسّرين جاريًا على ما ورد في من سبّب نزولها في الأحاديث الصحيحة.
ومن المفسّرين من جعل معنى الآية غير متّصل بآية تحريم الخمر والميسر.
وأحسب أنّهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنّهم رأوا أنّ سبب نزولها لا يقصرها على قضيَّة السبب بل يُعمل بعموم لفظها على ما هو الحقّ في أنّ عموم اللفظ لا يخصّص بخصوص السبب، فقالوا: رَفَع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذّات المطاعم وحلالها، إذا ما اتّقوا ما حَرّم الله عليهم، أي ليس من البرّ حرمانُ النفس بتحريم الطيّبات بل البرّ هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى} [البقرة: 189].
وفَسَّر به في الكشاف مبتدئًا به.
وعلى هذا الوجه يكون معنى الآية متّصلًا بآية: {يا أيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم}، فتكون استئنافًا ابتدائيًا لمناسبة ما تقدّم من النهي عن أن يحرّموا على أنفسهم طيّباتتِ ما أحلّ الله لهم بنذرٍ أو يمينٍ على الامتناع.
وادّعى بعضهم أنّ هذه الآية نزلت في القوم الذين حَرّموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهّب.
ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصحّ أنّ هذا سبب نزولها.
وعلى هذا التفسير يكون {طعِموا} مستعملًا في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة «إذا» مستعملة في المستقبل، وفعل {طعِموا} من التعْبير عن المستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة «إذا»، كما في قوله تعالى: {ثمّ إذَا دَعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25].
ويعكّر على هذا التفسير أنّ الذين حرّموا الطيّبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم.