فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفخر: زعم بعض الجهّال أنّ الله تعالى لمّا جعل الخمر محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادّة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنّه لا جناح على من طعِمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد، بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنّه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] ولا شكّ أنّ «إذا» للمستقبل لا للماضي.
قال الفخر: وهذا القول مردود بإجماع كلّ الأمّة.
وأمّا قولهم «إذا» للمستقبل، فجوابه أنّ الحلّ للمستقبل عن وقت نزول الآية في حقّ الغائبين.
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطْف {وعملوا الصالحات} على {اتَّقَوْا} من عطل الخاصّ على العامّ، للاهتمام به، كقوله تعالى: {مَن كان عدوًّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائل}، ولأنّ اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنّها مشتقّة من التوقّي والكفّ.
وأمّا عطف {وآمَنُوا} على {اتّقوا} فهو اعتراض للإشارة إلى أنّ الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى: {فَكّ رقبةٍ أو أطعام} إلى قوله ثُمّ كان من الذين آمنوا.
والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجردّ التنويه بالتقوى والإيماننِ والعمللِ الصالح، وليس المقصود أنّ نفي الجناح عنهم قيَّد بأن يتّقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأنّ لكلّ عمل أثرًا على فِعْله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبلُ، وكان الإيمان عَقدًا عقليًا لا يقبَل التجدّد تعيّن أنّ المراد بقوله: {وآمنوا} معنى ودَاموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.
وجملة {ثمّ اتَّقوا وآمنوا} تأكيد لفظي لجملة {إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} وقُرن بحرف {ثمّ} الدالّ على التراخي الرتبي ليكون إيماءًا إلى الازدياد في التقوى وآثارِ الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى: {كلاّ سيعلمون ثمّ كلاّ سيعلمون} [النبأ: 4، 5] ولذلك لم يكرّر قوله: {وعملوا الصالحات} لأنّ عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأمّا جملة {ثمّ اتّقوا وأحسنوا} فتفيد تأكيدًا لفظيًا لجملة {ثمّ اتّقوا} وتفيد الارتقاء في التقوء بدلالة حرف {ثمّ} على التراخي الرتبي.
مع زيادة صفة الإحسان.
وقد فسّر النبي صلى الله عليه وسلم الإحيان بقوله: «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وهذا يتضمَّن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة {وآمنوا} هنا.
ويشمل فعل {وأحسنوا} الإحسانَ إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأنّ منه إحسانًا غير واجب وهو ممّا يَجلب مرضاة الله، ولذلك ذيّله بقوله: {والله يحبّ المحسنين}.
وقد ذهب المفسّرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله: {ثمّ اتّقوا} على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال.
وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى: {إذا ما اتّقوا} وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط.
وفي جلبها طول.
وقد تقدّم أنّ بعضًا من السلف تأوّل هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتّقى الله فيما عدّ، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرّمات، ولا إلى إضرار الناس.
وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون، كما تقدّم في تفسير آية تحريم الخمر: وأنّ عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب لم يقبلاه منه. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}.
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (2: 219) أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ بِالتَّدْرِيجِ، وَصَدَّرْنَا الْكَلَامَ هُنَاكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مُخْتَصَرًا، وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: فِيَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ صَنَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَعَامًا فَدَعَانَا فَأَتَاهُ نَاسٌ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا حَتَّى انْتَشَوْا مِنَ الْخَمْرِ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَتَفَاخَرُوا فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: الْأَنْصَارُ خَيْرٌ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قُرَيْشٌ خَيْرٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ بِلَحْيِ جَزُورٍ فَضَرَبَ عَلَى أَنْفِي فَفَزَرَهُ فَكَانَ سَعْدٌ مَفْزُورَ الْأَنْفِ قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّحَّاسِ فِي نَاسِخِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْهُ «أَنَّهُ نَادَمَ رَجُلًا فَعَارَضَهُ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ فَشَجَّهُ فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ ثَمِلَ الْقَوْمُ عَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا أَنَّ صَحَوْا جَعَلَ يَرَى الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: صَنَعَ بِي هَذَا أَخِي فُلَانٌ وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ وَاللهِ لَوْ كَانَ رَءُوفًا رَحِيمًا مَا صَنَعَ بِي هَذَا، حَتَّى وَقَعَتِ الضَّغَائِنُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلَى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هِيَ رِجْسٌ وَهِيَ فِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي بَطْنِ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ، رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى: «اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَرَأَهَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَلَّ عَلَى دُعَائِهِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ النِّسَاءِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ دُعِيَ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا».
وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَفْتُونِينَ بِهَا حَتَّى إِنَّهَا لَوْ حُرِّمَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَكَانَ تَحْرِيمُهَا صَارِفًا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُدْمِنِينَ لَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، بَلْ عَنِ النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُؤَدِّي إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ السُّخْطِ فَيَرَوْنَهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ الْجَمِيلَةِ، فَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَبَالَغِ حِكْمَتِهِ أَنْ ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فِيهَا مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ، لِيَتْرُكَهَا مَنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ فِتْنَتُهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِمَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، إِذْ نَهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُصِرِّ عَلَى شُرْبِهَا إِلَّا الِاغْتِبَاقُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَضَرَرُهُ قَلِيلٌ، وَكَذَا الصَّبُوحُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ لِمَنْ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا يَخْشَى أَنْ يَمْتَدَّ سُكْرُهُ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَكَانَ شَيْخُنَا يَرَى أَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ تَرَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْحَالِ زَمَنًا قَوِيَ فِيهِ الدِّينُ، وَرَسَخَ الْيَقِينُ، وَكَثُرَتِ الْوَقَائِعُ الَّتِي ظَهَرَ لَهُمْ بِهَا إِثْمُ الْخَمْرِ وَضَرَرُهَا، وَمِنْهُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لِمَا نَزَلَتْ فِي الْبَقَرَةِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2: 219) شَرِبَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} وَتَرَكَهَا قَوْمٌ لِقَوْلِهِ: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (4: 43) فَتَرَكَهَا قَوْمٌ وَشَرِبَهَا قَوْمٌ يَتْرُكُونَهَا بِالنَّهَارِ حِينَ الصَّلَاةِ وَيَشْرَبُونَهَا بِاللَّيْلِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ قَالَ عُمَرُ: أَقُرِنَتَ بِالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ؟ بُعْدًا لَكِ وَسُحْقًا، فَتَرَكَهَا النَّاسُ، وَوَقَعَ فِي صُدُورِ أُنَاسٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهَا، فَجَعَلَ قَوْمٌ يَمُرُّ بِالرِّوَايَةِ مِنَ الْخَمْرِ فَتُخْرَقُ فَيَمُرُّ بِهَا أَصْحَابُهَا فَيَقُولُونَ: قَدْ كُنَّا نُكْرِمُكِ عَنْ هَذَا الْمَصْرَعِ، وَقَالُوا: مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْخَمْرِ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَلْقَى صَاحَبَهُ فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي شَيْئًا، فَيَقُولُ صَاحِبُهُ: لَعَلَّكَ تَذْكُرُ الْخَمْرَ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: إِنَّ فِي نَفْسِي مِثْلَ مَا فِي نَفْسِكَ، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ قَومٌ وَاجْتَمَعُوا فِيهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَكَلَّمُ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ «أَيْ حَاضِرٌ» وَخَافُوا أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ «أَيْ قُرَآنٌ» فَأَتَوْا رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَعَدُّوا لَهُ حُجَّةً فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ أَلَيْسُوا فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالُوا: أَلَيْسُوا قَدْ مَضَوْا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟ فَحُرِّمَ عَلَيْنَا شَيْءٌ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَهُ؟ فَقَالَ: قَدْ سَمِعَ اللهُ مَا قُلْتُمْ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا، وَنَزَلَ فِي الَّذِينَ ذَكَرُوا حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ، وَلِأَصْحَابِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَمَا كَانَ مِنَ اجْتِهَادِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي آيَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمِنْهُ حَدِيثٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ وَآثَارٌ سَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الْخَمْرُ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ، وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، وَقِيلَ: شَرْعِيَّةٌ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَقِيلَ: إِنَّ الْخَمْرَ مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ، وَهَذَا أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا الْعَصْرِ مِنَ اللُّغَةِ وَلَا مِنَ الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ (رَاجِعْ ص 257 وَمَا بَعْدَهَا ج2ط الْهَيْئَةِ).
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا رَدَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ وَأَخْصَرِهِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مَنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ. وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَلِلصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنَ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا يُسْكِرُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ، وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا وَلَمْ يَشْكُلْ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى إِتْلَافِ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَنِ الْإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَفْصِلُوا وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرٌ وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرٌ، وَمِنَ التَّمْرِ خَمْرٌ وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرٌ وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرٌ» وَرَوَى أَيْضًا «أَنَّهُ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ (أَيْ عُمَرَ) مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ اهـ.
وَقَدْ تَعَقَّبَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلِاسْمِ الشَّرْعِيِّ لَا اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا التَّعْقِيبُ ضَعِيفٌ لَا يُغْنِي عَنِ الْحَقِيقَةِ شَيْئًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْكِرَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرٌ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ الْآيَةِ شَرْعًا، وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَيْسَ اسْمًا لِعَمَلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ الشَّرْعِ فَلَمَّا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةً مِنَ اللُّغَةِ تَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنَ الشَّرَابِ يَمْتَازُ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بِالْإِسْكَارِ وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَعْرُوفَةٌ عَنْهُمْ قَبْلَ نُزُولِ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْخَمْرِ، وَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ سَأَلُوهُ عَنِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ وَلَا الْخَلَفِ وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِ أَحَدٍ أَنَّهُ سَأَلُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَمْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَاصَّةً وَأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالْجَوَابِ بِأَنَّ فِيهَا إِثْمًا كَبِيرًا وَمَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا أُلْحِقَ بِهَا فِي التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَوْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ لِلْخَمْرِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ شَيْءٍ كَمَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَوَدُّ لَوْ يَجِدُ مَخْرَجًا مِنْ تَحْرِيمِهَا كَمَا وُجِدَ الْمَخْرَجُ مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ الدَّالِّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِتَسْمِيَتِهَا إِثْمًا مَعَ تَصْرِيحِ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْإِثْمِ، وَلِأَجْلِهِ تَرَكَهَا بَعْضُهُمْ وَتَفَصَّى مِنْهُ آخَرُونَ بِتَخْصِيصِ الْإِثْمِ بِمَا كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَالنَّصُّ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَنَافِعَ، وَقَدْ أَهْرَقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْخَمْرِ عِنْدَ الْجَزْمِ بِالنَّهْيِ عَنْهَا كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا تَرَى بَعْدُ، وَقَلَّمَا كَانَ يُوجَدُ عِنْدَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ، فَلَوْ كَانَ مُسَمَّى الْخَمْرِ فِي لُغَتِهِمْ مَا كَانَ سُكْرًا مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَقَطْ لَمَا بَادَرُوا إِلَى إِهْرَاقِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ.