فصل: شُبْهَةٌ لِعُشَّاقِ الْخَمْرِ وَدَحْضُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الْألُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ (أَيْ طَعِمَ الْمَاءَ) بِمَعْنَى شَرِبَهُ وَاتَّخَذَهُ طَعَامًا فَقَبِيحٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَضِيَهُ الْمَقَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «زَمْزَمُ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ» فَإِنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا تُغَذِّي بِخِلَافِ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَلَا يَخْدِشُ هَذَا مَا حُكِيَ أَنَّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَطْعِمُونِي مَاءً، فَعَابَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ ذَلِكَ وَهَجَوْهُ بِهِ، وَحَمَلُوهُ عَلَى شِدَّةِ جَزَعِهِ، وَقِيلَ فِيهِ:
بَلَّ الْمَنَابِرَ مِنْ خَوْفٍ وَمِنْ وَهَلٍ ** وَاسْتَطْعَمَ الْمَاءَ لَمَّا جَدَّ فِي الْهَرَبِ

وَأَلْحَنُ النَّاسِ كُلِّ النَّاسِ قَاطِبَةً ** وَكَانَ يُولَعُ بِالتَّشْدِيقِ فِي الْخُطَبِ

لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا عِيبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ جَزَعٍ، فكَانَ مَظِنَّةَ الْوَهْمِ وَعَدَمَ قَصْدِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا فَوَقَعَ مَثَلُهُ فِي كَلَامِهِمْ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِيهِ: اهـ.
أَقُولُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَلَى تَشْبِيهِ مَائِهَا بِالْغِذَاءِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَأَمَّا كَلَامُ خَالِدٍ فَهُوَ لَحْنٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَذِيقُونِي طَعْمَ الْمَاءِ مُبَالَغَةً فِي طَلَبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ أَوْ إِرَادَةِ تَرْطِيبِ اللِّسَانِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يُجَفِّفُ الرِّيقَ، لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إِلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ «طَعِمَ» فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الشُّرْبِ مُطْلَقًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا بِالتَّبَعِ لِمَعْنَى الْأَكْلِ تَغْلِيبًا لَهُ، فَيُجْعَلَ {طَعِمُوا} هُنَا بِمَعْنَى أَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، كَتَغْلِيبِ الْأَكْلِ فِي كُلِّ اسْتِعْمَالٍ فِي مِثْلِ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا هُدِيَ إِلَى هَذَا الْإِيضَاحِ بِهَذَا التَّدْقِيقِ.
وَالْجُنَاحُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ مُؤَاخَذَةٌ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ:
وَلَاقَيْتُ مِنْ جُمْلٍ وَأَسْبَابِ حُبِّهَا ** جُنَاحَ الَّذِي لَاقَيْتُ مَنْ تِرْبِهَا قَبْلُ.

وَقَالَ ابْنُ حِلِّزَةَ:
أَعَلَينَا جُنَاحُ كِندَةَ أَنْ يَغْـ ** نَمَ غَازِيهُمُ وَمِنَّا الْجَزَاءُ

وَيُفَسِّرُونَهُ غَالِبًا بِالْإِثْمِ وَهُوَ مَا فِيهِ الضَّرَرُ، وَالضَّرَرُ يَكُونُ دِينِيًّا وَدُنْيَوِيًّا، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمُؤَاخَذَةِ.
وَمَعْنَى الْآيِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ وَالشَّاهِدِينَ وَالْغَائِبِينَ {جُنَاحٌ} إِثْمٌ وَلَا مُؤَاخَذَةٌ {فِيمَا طَعِمُوا} أَكَلُوا مِنَ الْمَيْسِرِ أَوْ شَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ فِيمَا مَضَى قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ثُمَّ حُرِّمَ {إِذَا مَا اتَّقَوْا} أَيْ إِذَا هُمُ اتَّقَوْا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وَمِنْهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الْمُبَاحِ {وَآمَنُوا} بِمَا كَانَ قَدْ نَزَّلَهُ اللهُ تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الَّتِي كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِهَادِ {ثُمَّ اتَّقَوْا} مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ {وَآمَنُوا} بِمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (9: 124، 125).
وَكَمَا قَالَ: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} (74: 31) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، {ثُمَّ اتَّقَوْا} أَيِ ارْتَقَوْا عَنْ ذَلِكَ فَاتَّقُوا الشُّبَهَاتِ تَوَرُّعًا وَابْتِعَادًا عَنِ الْحَرَامِ، {وَأَحْسَنُوا} أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَاتِ بِأَنْ أَتَوْا بِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، وَتَمَّمُوا نَقْصَ فَرَائِضِهَا بِنَوَافِلِ الطَّاعَاتِ {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ أَثَرًا مِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مِنَ الْإِيقَاعِ فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا صِقَالُ الْقُلُوبِ وَزَيْتُهَا الَّذِي يَمُدُّ نُورَ الْإِيمَانِ.
وَطَالَمَا اسْتَشْكَلَ الْمُفَسِّرُونَ اشْتِرَاطَ مَا اشْتَرَطَتْهُ الْآيَةُ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ مِنَ التَّقْوَى الْمُثَلَّثَةِ وَالْإِيمَانِ الْمُثَنَّى وَالْإِحْسَانِ الْمُوَحَّدِ، وَطَالَمَا ضَرَبُوا فِي بَيْدَاءِ التَّأْوِيلِ وَاسْتِنْبَاطِ الْآرَاءِ، وَطَالَمَا رَدَّ بَعْضُهُمْ مَا قَالَهُ الْآخَرُونَ فِي ذَلِكَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدًا بِعَمَلٍ عَمِلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فَقِيلَ: إِنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ بِشَرْطِ رَفْعِ الْجُنَاحِ، بَلْ لِبَيَانِ حَالِ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ، أَمَّا تَكْرَارُ التَّقْوَى فَقِيلَ: إِنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ أَوْ لِلْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ لِاخْتِلَافِ مَنْ يُتَّقَى مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ أَوْ مِنْ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، أَوْ بَعْضُهَا لِلثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ.
وَغَفَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْهَا، وَبَيَانُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَازِمَةٌ لَهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُطَّرِدَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَهِيَ مُطَّرِدَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَنَاهِيكَ بِمَا يَنْقُصُ مِنْ دِينِ مَنْ صَدَّ عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا كَانَ الدِّينُ وَمَنَاطُ الْجَزَاءُ فِي الْآخِرَةِ مَا يَكُونُ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَإِنَارَةِ الْقَلْبِ.
ثَانِيهُمَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَرَّضَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَبْلَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ بِمَا يُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَاللَّبِيبُ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ مُقَصِّرًا فِي اجْتِهَادِهِ وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِيثَارِ الْهَوَى أَوِ الشَّهْوَةِ.
هَذَا وَجْهُ الشَّبَهِ، وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ عَنْهَا: أَنَّ مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ، وَصَالِحُ عَمَلِهِ، وَعَمِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ، وَبِحَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِي الظَّنِّيَّةِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ارْتَقَى إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ فَلَا يَحُولُ دُونَ تَزْكِيَةِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَصَقْلِهِ لِقَلْبِهِ، مَا كَانَ قَدْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْإِثْمِ مَا حُرِّمَ بَعْدُ لِأَجْلِهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ فِي الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الدِّينِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْعِرْضِ، وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَتَخَلَّفُ أَحْيَانًا، إِذْ يَكْفِي التَّحْرِيمُ أَنْ يَكُونَ ضَارًّا فِي الْغَالِبِ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ الضَّرَرُ فِي الْجِسْمِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ ضَرَرِهِ بِقُوَّةِ مِزَاجِهِ إِذَا هُوَ لَمْ يُسْرِفْ فِيهِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِنْ شَأْنِهِ نَقْصُ الدِّينِ وَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ فَرُبَّمَا يَنْجُو مِنْ سُوءِ تَأْثِيرِهِ الذَّاتِيِّ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ وَكَثْرَةِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ الضَّرَرُ كَنُقْطَةٍ مِنَ الْقَذَرِ وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ أَوِ النَّهْرِ، وَلَكِنَّ قُوَّةَ الْإِيمَانِ وَرُسُوخَ الدِّينِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ يُنَافِي الْإِقْدَامَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنَ اللَّمَمِ وَالْهَفَوَاتِ الَّتِي لَا يُصِرُّ الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا، فَالْجُنَاحُ الْعَظِيمُ وَالْخَطَرُ الْكَبِيرُ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهَا لَيْسَ فِيمَا عَسَاهُ يُصِيبُ مُرْتَكِبُهَا مِنْ ضَرَرِهَا الذَّاتِيِّ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهِ فَقَطْ، لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَتَخَلَّفُ أَوْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَوْ مَغْلُوبًا، بَلِ الْجُنَاحُ وَالْخَطَرُ الدِّينِيُّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى تَرْجِيحُ هَوَى النَّفْسِ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ حَفِظَ اللهُ مِنْهُ مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ، بَلْ حَفِظَهُمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ضَرَرِ الْخَمْرِ الِاجْتِمَاعِيِّ الدُّنْيَوِيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْرِفُوا فِيهَا وَلَاسِيَّمَا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُبْقِي لَهُمْ إِلَّا وَقْتًا ضَيِّقًا لِشُرْبِهَا، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَنْفَسَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ شَأْنَ الصَّحَابَةِ عَامَّةً: كَانَ يَكَادُ الشِّقَاقُ يَقَعُ بَيْنَهُمْ كَمَا مَرَّ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَلَكِنْ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَغْلِبَهُ الْإِيمَانُ، فَكَانُوا مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (7: 201) فَالْمَعْصِيَةُ لَا تُفْسِدُ الرُّوحَ إِلَّا إِذَا كَانَ فَاعِلُهَا غَيْرَ مَيَّالٍ بِحُرْمَةِ الشَّرْعِ، وَلَا يَكُونُ تَأْثِيرُهَا الذَّاتِيُّ قَوِيًّا إِلَّا بِالْإِسْرَافِ فِيهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الْبَاحِثِينَ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَفَلْسَفَةِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ عَنِ السَّبَبِ فِي سُوءِ تَأْثِيرِ الزِّنَا فِي إِفْسَادِ أَخْلَاقِ فُسَّاقِ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِذْلَالِ أَنْفُسِهِمْ وَإِضْعَافِ بَأْسِهِمْ، وَعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي الْيَابَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا التَّأْثِيرِ، فَأَجَبْتُهُ عَلَى الْفَوْرِ: إِنَّ الْيَابَانِيِّينَ لَا يَدِينُونَ اللهَ بِحُرْمَةِ الزِّنَا كَالْمِصْرِيِّينَ، فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ بَدَنِيٌّ، وَأَقَلُّهُ اجْتِمَاعِيٌّ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ ضَرَرٌ رُوحِيٌّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ فَمُعْظَمُ ضَرَرِهِ فِيهِمْ رُوحِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُونَ دِينًا وَعُرْفًا بِقُبْحِهِ وَفُحْشِهِ، فَهُمْ بِذَلِكَ يُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى دَنِيئَةِ الْفُحْشِ، وَالِاتِّصَافِ بِالْقُبْحِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَهَانَةِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ فَأُعْجِبَ بِالْجَوَابِ وَأَذْعَنَ لَهُ.

.شُبْهَةٌ لِعُشَّاقِ الْخَمْرِ وَدَحْضُهَا:

قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عِنْدَمَا تَكُونُ مُوقِعَةً فِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ قَالُوا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: «مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ عَمِلُوا» كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (2: 143) لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ بَلْ قَالَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} وَلَا شَكَّ أَنَّ «إِذَا» لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا الْمَاضِي وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْدُودٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأَئِمَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: عَنْ كَلِمَةِ «إِذَا» لِلْمُسْتَقْبَلِ لَا لِلْمَاضِي، فَجَوَابُهُ مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَفَعَلُوا الْقِمَارَ؟ وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا»؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (الْصَوَابُ الْآيَةَ) وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْحِلُّ قَدْ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ الَّذِينَ لَمَّ يَبْلُغْهُمْ هَذَا النَّصُّ: انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ بِحُرُوفِهِ.
وَأَقُولُ إِنَّ جَوَابَهُ ضَعِيفٌ فِيمَا أَقَرَّهُ وَفِيمَا رَدَّهُ إِلَّا نَقْلَ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ غَيْرَ دَقِيقٍ فِي الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ اللُّغَةِ حَتَّى إِنَّ عِبَارَتَهُ نَفْسَهَا ضَعِيفَةٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى احْتِجَاجِ أَصْحَابِ هَذَا التَّحْرِيفِ:
أَوْلًا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إِلَخْ، لَيْسَ خَبَرًا عَمَّنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ بِسَبَبِ السُّؤَالِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هِيَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى، يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَطْعِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَحُكْمُ مَنْ نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي عَهْدِهِمْ وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَحُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، وَهَذَا أَبْلَغُ وَأَهَمُّ فَائِدَةً مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ خَاصَّةً.
ثَانِيًا: إِنَّ قَوْلَ الْمُشْتَبِهِينَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ الَّذِينَ مَاتُوا لَقَالَ: «مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا» بَاطِلٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا زَعَمُوا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الشَّأْنِ لَا عَلَى نَفْيِ حَدِيثٍ مَضَى، فَمَعْنَاهُ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مِنْ قَبْلُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَنَقَلْنَاهُ عَنِ الْكَشَّافِ فَهُوَ يَعُمُّ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلَ وَمِثَالُهُ: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ} (12: 38) وَيُشْبِهُ الْعِبَارَةَ الَّتِي قَالُوهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ} (33: 38) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهَا لِنَفْيِ الْحَرَجِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي بَلْ تَعُمُّ نَفْيَهُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْفَائِدَةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا.
ثَالِثًا: لَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ذَكَرُوهُ لَأَخَذَ بِهِ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَهُمْ.
نَعَمْ إِنَّهُ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ لَكَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ تَضْيِيقٌ وَإِعْنَاتٌ فِيمَا أَكَلُوا «وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ أَوْ شَرِبُوا» مِنَ اللَّذَائِذِ كَمَا تَوَهَّمَ الَّذِينَ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَيِّبَاتَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مُبَالَغَةً فِي النُّسُكِ إِذَا كَانُوا مُعْتَصِمِينَ بِعُرَى التَّقْوَى فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، رَاسِخِينَ فِي الْإِيمَانِ مُتَحَلِّينَ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مُحْسِنِينَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ؛ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إِنَّمَا الْجُنَاحُ الْحَرَجُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يُسْرِفُونَ فِيهِمَا، وَيَجْعَلُونَهَا أَكْبَرَ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَلَا يَجْتَنِبُونَ الْخَبِيثَ مِنْهُمَا، فَالْعِبْرَةُ فِي الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِحْسَانِ فَذَلِكَ هُوَ النُّسُكُ كُلُّهُ، لَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَعْذِيبِ النُّفُوسِ وَإِرْهَاقِهَا، وَلَعَلَّ شَيْخَنَا لَوْ فَسَّرَ الْآيَةَ لَجَزَمَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ، وَأَنَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا إِذَا صَحَّ يُؤْخَذُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ فَحْوَى الْآيَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا لِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي الدِّينِ هُوَ التَّقْوَى لَا أَمْرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يُحَرَّمُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا لِضَرَرِهِ.