فصل: فَائِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فَائِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ:

ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ أَنَّ أَهْلَ بِلَادِ الشَّامِ يُسَمَّوْنَ النَّبِيذَ، نَقُوعًا وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ نَقِيعٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي الْمُخَصَّصِ نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْعَيْنِ: النَّقُوعُ وَالنَّقِيعُ (بِفَتْحِ النُّونِ فِيهَا) شَيْءٌ يُنْقَعُ فِيهِ الزَّبِيبُ وَغَيْرُهُ ثُمَّ يُصَفَّى مَاؤُهُ وَيُشْرَبُ.
(الِاسْتِدْرَاكُ الثَّانِي) يَحْتَجُّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْخَمْرِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ هِيَ مَا كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَطْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُهُ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ تُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ مُسَلَّمَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ، وَفِيهَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ (مِنَ الْكُوفِيِّينَ) لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ الَّذِينَ لَا خِلَافَ فِي إِجْمَاعِهِمْ هُمُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ خَمْرِ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ كِبَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِهِمْ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّ مُرَادَ الشَّرْعِ تَحْرِيمُ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَمْرِ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، أَيْ خَالَطَهُ فَأَفْسَدَ عَلَيْهِ إِدْرَاكَهُ وَحُكْمَهُ، وَمِنْهُ الدَّاءُ الْمُخَامِرُ، وَمَنْ قَالَ: خَامَرَهُ غَطَّاهُ؛ فَقَدْ رَاعَى أَصْلَ مَعْنَى خَمَرَ الشَّيْءَ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَالْحَدِيثُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ قَوْلَهَ هَذَا، وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَفْسِيرٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ بِرَأْيهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَهُ بِاعْتِبَارِ فَهْمِهِ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قُلْنَا: إِذَا كَانَ هَذَا مَا فَهِمَهُ هَذَا الْإِمَامُ فِي اللُّغَةِ وَالدِّينِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ خَالَفَهُ فِيهِ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَ لِنَصٍّ شَرْعِيٍّ تَفْسِيرًا أَصَحَّ وَأَقْوَى مِنْ تَفْسِيرٍ يُصَرِّحُ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِنْبَرِ الرَّسُولِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَعَامَّتِهِمْ؟ وَهَلْ نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعٌ مُسْتَنِدٌ أَىْ دَلِيلُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ؟ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ كَوْنَ كُلِّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ خَمْرًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْمُقِرِّينَ بِدَلِيلِهِ وَبِالْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذِ السُّكُوتِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ مُجْتَهَدِي عَصْرِهِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُمْ مُوَافَقَةٌ لَهُ وَلَا إِنْكَارٌ وَإِنَّ إِقْرَارَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ فِي حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ الْقَوْلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْقَلَ وَيَشِيعَ، وَأَنْ يُرَاجِعَهُ فِيهِ الْبَعِيدُ إِذَا بَلَغَهُ كَالْقَرِيبِ، وَلَوْ رَاجَعَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ لَعَادَ إِلَى ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فَعَلَ عِنْدَ مَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ مَا كَانَ أَرَادَهُ مِنَ الْأَمْرِ بِتَحْدِيدِ الْمَهْرِ، ثُمَّ إِنَّ إِجْمَاعَهُمُ الْعَمَلِيَّ عَلَى تَرْكِ جَمِيعِ الْمُسْكِرَاتِ مُنْذُ نَزَلَتِ الْآيَةُ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَ هَذَا إِجْمَاعًا فَلَا سَبِيلَ إِلَى ثَبَاتِ إِجْمَاعِ قَوْلِيٍّ قَطُّ.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْخَمْرِ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ، بَلْ هُوَ مَنْ جَعَلَ الدَّلِيلَ عَيْنَ الْمَدْلُولِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُخَالِفُ وَحْدَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ دَعْوَاهُ الْخِلَافَ حُجَّةً لِخِلَافِهِ؟ هَذِهِ مُصَادَرَةٌ بَدِيهِيَّةٌ، نَعَمْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ عَرَضَتْ لِمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّقْلُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِيهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَهُ النَّقْلُ، فَمَتَى بَلَغَهُ زَالَتِ الشُّبْهَةُ بِالْحُجَّةِ.
وَأَمَّا مِنْ جَاءَ بَعْدَ الْمُخَالِفِ الْأَوَّلِ وَبَلَغَهُ خِلَافُهُ فَشَبْهَتُهُ أَقْوَى عِنْدَ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ وَالْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ، فَالْكَلَامُ مَعَهُمْ لَغْوٌ مَا لَمْ يُحْكِمُوا الدَّلِيلَ وَيَرْضَوْا بِحُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} (4: 59) الْآيَةَ، فَإِنْ رَضُوا بِهِ بَيَّنَّا لَهُمْ مَا صَحَّ مِنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِمْ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَلَفْظُ الْمُسْكِرِ اسْمُ جِنْسٍ.

.تَشْدِيدُ السُّنَّةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ:

رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ» زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ «فَلَمْ يُسْقَهَا».
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيَشْرَبُهُ فِيهَا، وَقِيلَ: لَا يَشْرَبُهَا فِيهَا وَإِنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَدَخَلَهَا، لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ شَيْئًا فَجُوزِيَ بِحِرْمَانِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ لِشُرْبِهَا، لِأَنَّهُ رَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ غَيْرُ مُذْعِنٍ لَهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ «فَلَمْ يُسْقَهَا» ظَاهِرَةٌ فِي رَدِّهِ.
ورُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» وَقَدْ عَزَاهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ قَالَ وَلَفْظُهُ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَهَذَا يَرُدُّ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْنَعِ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ حِكَايَتِهِ كَغَيْرِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُقَدَّمُ الْخَمْرُ عَلَى السَّرِقَةِ، قِيلَ: هَذَا فِي الْمُسْتَحَلِّ، وَقِيلَ: النَّفْيُ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ: وَقِيلَ: وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يُفَارِقُ مُرْتَكِبَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْكَبَائِرِ مُدَّةَ مُلَابَسَتِهِ لَهَا وَقَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا، وَحَقَّقَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ مِنَ الْإِحْيَاءِ أَنَّ مُرْتَكِبَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَالَ ارْتِكَابِهِ مُتَّصِفًا بِالْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ سَخَطِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، لِأَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ اجْتِنَابَ الْعِصْيَانِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْقِيَهَا» وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثًا بِمَعْنَاهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ جِبْرِيلَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَى لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

.حِكْمَةُ تَشْدِيدِ الْإِسْلَامِ فِي الْخَمْرِ دُونَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ وَرَدُّ شُبْهَةٍ عَلَى تَحْرِيمِهَا:

إِذَا قِيلَ: إِنَّ دِينَ اللهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْحِكْمَةِ مِنْهُ وَاحِدٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الرُّسُلِ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ بَعْضُ الشَّرَائِعِ فِي أَمْرَيْنِ أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَأَحْوَالِ الشُّعُوبِ وَالْأَجْيَالِ.
وَثَانِيهُمَا: مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى مِنْ سَيْرِ أُمُورِ الْبَشَرِ كُلِّهَا عَلَى سُنَّةِ التَّرَقِّي التَّدْرِيجِيِّ الَّذِي مِنْ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَكْمَلَ مِمَّا قَبِلَهُ، بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى دِينَهُ الْعَامَّ، بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قُلْتُ: إِنَّ فِي الْخَمْرِ مِنَ الضَّرَرِ الذَّاتِيِّ، مَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا وَمَا ذَكَرْتُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِيهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا هَذِهِ شُبْهَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحَدَّثَ بِهَا الْمُحِبُّونَ لَهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى حِلِّ مَا دُونُ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِمَّا سِوَى خَمْرَةِ الْعِنَبِ الَّتِي زَعَمُوا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ قَاصِرًا عَلَيْهَا تَعَبُّدًا، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَقْدِ الْفَرِيدِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَعْنُونَ بِتَدْوِينِ أَخْبَارِ الْفُسَّاقِ وَالْمُجَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَقْوَى مِنْ شُبْهَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَلَا يَدْفَعُهَا جَوَابُكَ عَنْهَا، بَلْ زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ نَبِيذٍ مُسْكِرٍ وَلَكِنَّهُ مَزَجَهُ فَلَمْ يَسْكَرْ بِهِ، فَمَا قَوْلُكَ فِي ذَلِكَ؟
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ نَقْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وُجِدَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ حَاوَلَ إِثْبَاتَ أَنَّ شُرْبَ مَا دُونَ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنَ الْخُمُورِ كُلِّهَا حَلَالٌ إِلَّا مَا اتُّخِذَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَهُوَ أَقَلُّهَا ضُرًّا وَشَرًّا مَعَ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالتَّوَاتُرِ، وَحِفْظِ السُّنَّةِ وَسِيرَةِ أَهْلِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بِضَبْطٍ وَإِتْقَانٍ لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ فِي نَقْلِ دِينِهَا أَوْ تَارِيخِهَا، فَهَلْ يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعِصْمَتِهِمْ؟
(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّنَا إِذَا سَلَّمْنَا مَا يَنْقُلُونَهُ فِي الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى حِلِّ الْخَمْرِ وَعَدَمِ التَّشْدِيدِ إِلَّا فِي السُّكْرِ، نَقُولُ أَوَّلًا إِنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ إِكْمَالِ الدِّينِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَهَّدَ الْأَنْبِيَاءُ لَهُ مِنْ قَبْلُ بِتَقْبِيحِ السُّكْرِ وَذَمِّهِ، وَلَمْ يُشَدِّدُوا فِي سَدِّ ذَرِيعَتِهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ لِمَا كَانَ مِنَ افْتِتَانِ الْبَشَرِ بِهَا وَمَنَافِعِهِمْ مِنْهَا، كَمَا فَعَلَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ عَهْدِهِ.
وَثَانِيًا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا أَكْمَلَ دِينَهُ الْعَامَّ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَشَرَ سَيَدْخُلُونَ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ تَتَضَاعَفُ فِيهِ مَفَاسِدُ السُّكْرِ، وَأَنَّ مَصْلَحَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ أَنْ يَتَسَلَّحَ الْمُؤْمِنُونَ بِأَقْوَى السِّلَاحِ الْأَدَبِيِّ لِاتِّقَاءِ شُرُورِ مَا يُسْتَحْدَثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُمُورِ الشَّدِيدَةِ الْفَتْكِ بِالْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ فِي صُوَرِ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَكَثِيرِهَا.
وَهَاكَ بَعْضُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ كُتُبِهِمْ فِي ذَمِّهَا:
جَاءَ فِي نُبُوَّةِ أَشْعَيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ (5: 11 وَيْلٌ لِلْمُبَكِّرِينَ صَبَاحًا يَتَّبِعُونَ الْمُسْكِرَ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْقِمَّةِ تُلْهِبُهُمُ الْخَمْرُ 12 وَصَارَ الْعُودُ وَالرَّبَابُ وَالدُّفُّ وَالنَّاسُ وَالْخَمْرُ وَلَائِمَهُمْ، وَإِلَى فِعْلِ الرَّبِّ يَنْظُرُونَ، وَعَمَلِ يَدَيْهِ لَا يَرَوْنَ 13 لِذَلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ وَعَامَّتُهُ يَابِسَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ 14 لِذَلِكَ وَسَعَّتِ الْهَاوِيَةُ نَفْسَهَا وَفَغَرَتْ فَاهَهَا بِلَا حَدٍ) يُشِيرُ إِلَى مَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ تِلْكَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ (28: 1 وَيْلٌ لِإِكْلِيلِ فَخْرِ سُكَارَى أَفْرَايِمْ وَلِلزَّهْرِ الذَّابِلِ جَمَالُ بَهَائِهِ الَّذِي عَلَى رَأْسِ وَادِي سَمَائِنِ الْمَضْرُوبِينَ بِالْخَمْرِ إِلَى أَنْ قَالَ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ ضَلُّوا بِالْخَمْرِ وَتَاهُوا بِالْمُسْكِرِ، الْكَاهِنُ وَالنَّبِيُّ تَرَنَّحَا بِالْمُسْكِرِ، ابْتَلَعَتْهُمَا الْخَمْرُ، تَاهَا مِنَ الْمُسْكِرِ، ضَلَّا فِي الرُّؤْيَا) وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ عِنْدَهُمْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُوحًى إِلَيْهِ.
وَمِنْ شَوَاهِدَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ بُولُسَ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ أَفْسِسْ (5: 18 وَلَا تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلَاعَةُ) وَنَهْيُهُ عَنْ مُخَالَطَةِ السِّكِّيرِ (1 كو 5: 11) وَجَزَاهُ بِأَنَّ السِّكِّيرِينَ لَا يَرِثُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ (غلاه: 21و 1 كو 6: 9، 10).
نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ:
أَمَّا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا الْإِسْلَامِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي سِيرَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، قَبْلَ تَحْرِيمِهَا وَبَعْدَهُ، فَإِذَا اشْتَبَهَ فِي وَصْلِهِ إِلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَامًا وَقَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ الرَّجُلُ: أَفَلَا أَبِيعُهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا: قَالَ: أَفَلَا أُكَارِمُ بِهَا الْيَهُودَ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ أَنْ يُكَارِمَ بِهَا الْيَهُودَ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: شِنَّهَا عَلَى الْبَطْحَاءِ» وَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ لَهَا، عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحُّ هَكَذَا، وَلَكِنَّ لَهُ أَصْلًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ (أَيِ الرَّجُلُ) إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَا سَارَرْتَهُ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنِ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ فَفَتَحَ الْمَزَادَ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهَا» وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ صَاحِبَ الْمُنْتَقَى أَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَرَكَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحِ، وَأَنَّ الشَّوْكَانِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى سَنَدِهِ.