فصل: التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَا رُوِيَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَبِيذِ السِّقَايَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ وَمِنْ كَوْنِهِ شَمَّهُ أَوَّلًا (وَقِيلَ ذَاقَهُ) فَقَطَّبَ وَأَمَرَ بِأَنْ يُزَادَ فِيهِ الْمَاءُ فَهُوَ إِنْ صَحَّ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ كَانَ مُسْكِرًا وَلَا عَلَى كَوْنِهِ شَرِبَ مِنْهُ كَانَ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْمَفْتُونِينَ بِالنَّبِيذِ، إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الرِّوَايَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَعَلَى إِسْقَائِهِ لِلْحُجَّاجِ جَهْرًا فِي الْحَرَمِ وَهَذَا زَعْمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ مَنْقُوصٌ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا رُبَّمَا تَوَاتَرَ مِنْ أَنَّهُمْ تَرَكُوا بَعْدَ نُزُولِ آيَاتِ الْمَائِدَةِ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّمَا يُفَسِّرُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَذِنَ لَهُمْ بِالِانْتِبَاذِ فِي الْأَسْقِيَةِ (أَيْ قِرَبِ الْجِلْدِ) قَالَ: «فَإِنِ اشْتَدَّ فَاكْسَرُوهُ بِالْمَاءِ فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَأَهْرِيقُوهُ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ مَاذَا يَفْعَلُونَ إِذَا اشْتَدَّ فِي الْأَسْقِيَةِ فَقَالَ: «صُبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: أَهْرِيقُوهُ... الْحَدِيثَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ يُفَسِّرُ لَنَا أَمْرَهُ بِكَسْرِ مَا فِي سِقَايَةِ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ إِذْ شَمَّهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ بَدَا فِيهِ التَّغَيُّرُ وَقَرُبَ أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ إِدَاوَةِ عُمَرَ فَسَكِرَ، فَجَلَدَهُ وَقَالَ: جَلَدْنَاكَ لِلسُّكْرِ، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ.
وَيَقُولُ بَعْضُ النَّصَارَى: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّ بَعْضَ مَنْ سَكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَتَلَ الرَّاهِبَ بِسَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَمْرِ وَهَذَا قَوْلٌ مُخْتَلَقٌ لَا أَصْلَ لَهُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يُرْوَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ وَلَا مَوْضُوعٍ، وَبَحِيرَا الرَّاهِبُ لَمْ يَجِئِ الْحِجَازَ، وَإِنَّمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ تُجَّارِ مَكَّةَ فِي بُصْرَى بِالشَّامِ وَلَمَّا اخْتَبَرَ حَالَهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَوْصَى بِهِ عَمَّهُ وَحَذَّرَهُ مِنَ الْيَهُودِ أَنْ يَكِيدُوا لَهُ، وَكَانَتْ سِنُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ بَحِيرَا أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ، وَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ الْخَمْرَ كَمَا حَرَّمَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ وَخَلَّاهَا: بَلْ كَانَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ تَدْرِيجِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ.

.التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَالنَّجَاسَاتِ وَالسُّمُومِ لِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوِيدٍ الْجُعْفِيِّ فِي الْخَمْرِ سَيَأْتِي وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ يَعْنِي السُّمَّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ثِقَةٌ فِي الشَّامِيِّينَ كَمَا هُنَا، ضَعِيفٌ فِي الْحِجَازِيِّينَ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِذْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعُرَنِيِّينَ بِالتَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ بِشَرْطِ عَدَمِ وُجُودِ دَوَاءٍ مِنَ الْحَلَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْحَرَامِ، وَقَالَ شَيْخُنَا مُحَمَّد عَبْده: يُشْتَرَطُ فِي التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ أَلَّا يَقْصِدَ الْمُتَدَاوِي بِهَا اللَّذَّةَ وَالنَّشْوَةَ وَلَا يَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ مَا يُحَدِّدُهُ الطَّبِيبُ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ الْآتِيَيْنِ:
(السُّؤَالُ) هَلْ يَحِلُّ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِذَا ظُنَّ نَفْعُهَا بِخَبَرِ طَبِيبٍ أَخْذًا مِنْ آيَةِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (22: 78) وَمِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ؟ وَإِذَا جَوَّزْتُمْ فَمَاذَا تَرَوْنَ فِي حَدِيثِ «إِنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَ بِدَوَاءٍ» أَوْ كَمَا وَرَدَ؟
(الْجَوَابُ) التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ لِمَنْ ظَنَّ نَفْعَهَا شَيْءٌ وَالِاضْطِرَارُ إِلَى شُرْبِهَا شَيْءٌ آخَرُ، فَأَمَّا الِاضْطِرَارُ فَإِنَّمَا يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (6: 119) يَنْفِي الْحَرَجَ وَالْعُسْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ (أَيْ كَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وَقَدْ مَثَّلَ الْفُقَهَاءُ لَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ فَكَادَ يَخْتَنِقُ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ سِوَى الْخَمْرِ وَمِثْلُهُ مَنْ دَنَقَ مِنَ الْبَرْدِ وَكَادَ يَهْلِكُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ بَرْدًا سِوَى جَرْعَةٍ أَوْ كُوبٍ مِنْ خَمْرٍ.
وَمِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى مِنْهُ مَنْ أَصَابَتْهُ نَوْبَةُ أَلَمٍ فِي قَلْبِهِ كَادَتْ تَقْضِي عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَ أَوْ أَخْبَرَهُ الطَّبِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْخَطَرَ سِوَى شُرْبِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْخَمْرِ الْقَوِيَّةِ كَالنَّوْعِ الْإِفْرِنْجِيِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ «كُونْيَاكَ» فَإِنَّنَا نَسْمَعُ مِنَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِعِلَاجِ مَا يَعْرِضُ مِنْ مَرَضِ الْقَلْبِ وَدَفْعِ الْخَطَرِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْعِلَاجِ لَا يَكَادُ يَكُونُ شُرْبًا لِلْخَمْرِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ نُقَطٌ قَلِيلَةً لَا تُسْكِرُ، وَأَمَّا التَّدَاوِي الْمُعْتَادُ بِالْخَمْرِ لِمَنْ يَظُنُّ نَفْعَهَا وَلَوْ بِإِخْبَارِ الطَّبِيبِ كَتَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ أَوِ الدَّمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نَسْمَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ السَّائِلُ «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَسَبَبُهُ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ عَنِ الْخَمْرِ وَكَانَ يَصْنَعُهَا فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَالَهُ، وَقَوْلُهُ: «وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» وَهُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ الْمُسْكِرَةَ مِنَ الْخَمْرِ سُمٌّ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَمُوتُ بِهَا فِي كُلِّ عَامٍ أُلُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَالسُّمُومُ قَدْ تَدْخُلُ فِي تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَلَوْ بِقَصْدِ التَّدَاوِي بِهَا لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي أَعْصَابِهِمْ سُمُّهَا، فَتَصِيرَ مَطْلُوبَةً عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا، أَيْ لَا لِمُجَرَّدِ التَّدَاوِي بِهَا، فَيَتَضَرَّرُونَ بِسُمِّهَا، فَلَا يَغْتَرَّنَّ مُسْلِمٌ بِأَمْرِ أَحَدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ بِالتَّدَاوِي بِهَا لِمِثْلِ مَا يَصِفُونَهَا لَهُ عَادَةً وَاللهُ الْمُوَفِّقُ اهـ.
هَذَا مَا أَجْبَنَا بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَنَزِيدُ فِي إِيضَاحِهِ بِالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَاعْتِبَارِ الْقِيَاسِ فَنَقُولُ إِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الْخَمْرِ مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، أَيْ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنْوَاعَهَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمِنْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتْوَى آنِفًا، (وَلَيْسَ مِنْهُ مِثْلُ الزِّنَا كَمَا لَا يَخْفَى) وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِقَوْلِهِمْ: «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ» وَإِذَا وَصَلَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ إِلَى حَدِّ الْإِضْرَارِ إِلَيْهِ بِشَهَادَةِ الثِّقَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ قَاعِدَةُ «الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا» فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقُولُ الطَّبِيبُ حَتَّى إِذَا حَدَّدَهُ بِالنُّقَطِ امْتَنَعَ زِيَادَةُ نُقْطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَقَدْ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ كَرُؤْيَةِ الطَّبِيبِ لِعَوْرَاتِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي فَالتَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَى هَذَا جَائِزٌ مُطْلَقًا أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدُ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَعَدَّهُ بَعْضُهُمْ كَتَدَاوِي الْعُرَنِيِّينَ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَجِسٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ أَنَّ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَوَاءً فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْقَاعِدَةِ وَلَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ، هَذَا إِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ مُبَاشَرَةً لِغَيْرِ اضْطِرَارٍ، أَمَّا دُخُولُ نُقَطٍ مِنَ الْخَمْرِ فِي عِلَاجٍ مُرَكَّبٍ تَكُونُ أَجْزَاءُ الْخَمْرِ فِيهِ مَغْلُوبَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُسْكِرَ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَالْقَلِيلِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ.

.أَسْبَابُ تَرْجِيحِ شُرْبِ الْخَمْرِ الضَّارِّ عَلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ:

ثَبَتَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْإِحْصَاءِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ الْإِفْرِنْجُ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُبْتَلَوْنَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِهَا إِلَّا بِإِغْرَاءِ الْقُرَنَاءِ وَالْمُعَاشِرِينَ وَالْأَصْحَابِ، وَأَنَّهُمْ يَحْتَسُونَهَا فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ إِلَّا كُرْهًا، لِبَشَاعَةِ طَعْمِهَا وَلِاعْتِقَادِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى عَمَلٍ مُنْكَرٍ أَوْ ضَارٍّ وَلَكِنَّ غَرِيزَةَ التَّقْلِيدِ فِي الْإِنْسَانِ وَضَعْفَ إِرَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْعُشَرَاءِ وَالْخِلَّانِ، هُمَا اللَّذَانِ يُمَهِّدَانِ السَّبِيلَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
أَمَّا الشُّبْهَةُ الَّتِي يُرَجِّحُ بِهِ الْعَالِمُونَ بِضَرَرِ الْخَمْرِ دَاعِيَتَيِ التَّقْلِيدِ وَمُوَاتَاةِ الْعُشَرَاءِ أَوَّلًا وَطَاعَةِ غُولِ الْخَمْرِ آخِرًا عَلَى دَاعِيَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى صِحَّةِ الْجِسْمِ وَالْعَقْلِ، فَهِيَ ظَنُّهُ أَنَّ الضَّرَرَ الْمُتَيَقَّنَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ فِي الشُّرْبِ، وَالِانْهِمَاكِ فِي السُّكْرِ، وَأَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ إِمَّا أَنْ يَنْفَعَ وَإِمَّا أَلَّا يَضُرَّ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مِنْ لَذَّةِ النَّشْوَةِ وَالذُّهُولِ عَنِ الْمُكَدِّرَاتِ وَمِنْ مُجَامَلَةِ الْإِخْوَانِ، لِتَوَهُّمِ ضَرَرٍ نَجَا مِنْهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَلَوْ سَأَلَ هَؤُلَاءِ الْمَخْدُوعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَأَسْرَفُوا فِي السُّكْرِ حَتَّى أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ صِحَّتَهُمْ وَعِفَّتَهُمْ وَبَيْتَهُمْ وَثَرْوَتَهُمْ: هَلْ كُنْتُمْ يَوْمًا بَدَأْتُمْ بِشُرْبِ الْإِثْمِ تَنْوُونَ الْإِسْرَافَ فِيهِ وَإِدْمَانِهِ؟ لَأَجَابَهُمْ جَمِيعُ مَنْ سَأَلُوهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا لَا، وَإِنَّمَا كُنَّا نَنْوِي أَنْ نَشْرَبَ الْقَلِيلَ، وَمَا كُنَّا لِنَعْلَمَ أَنَّ الْقَلِيلَ يَقْسِرُنَا عَلَى الْكَبِيرِ، وَيَرْمِينَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّاءِ الْوَبِيلِ حَتَّى لَا نَجِدَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ سَبِيلٍ؛ وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي تَعَلُّلِ شُرْبِ بَعْضِ الْمُتَعَلِّمِينَ الْأَطِبَّاءِ لِلْخَمْرِ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ وَالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ فَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَلَهُمْ شُبَهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِقَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ لِذَاتِهَا وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا الْقَدْرُ الْمُسْكِرُ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْحُسْوَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِي تَعْقُبُهَا نَشْوَةُ الْمُسْكِرِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ بِأَنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ مِنَ الشَّرَابِ بِالْفِعْلِ هُوَ الْحَرَامُ وَقَدْ بَيَّنَّا رَدَّ هَذَا فِيمَا سَبَقَ، وَأَنَّ لَفْظَ مُسْكِرٍ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ كُلَّ شَرَابٍ مِنْ شَأْنِهِ الْإِسْكَارُ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَقْرُونًا بِكُلٍّ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» كَمَا تَقَدَّمَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى كُلُّ مِقْدَارٍ مُسْكِرٍ بِالْفِعْلِ يُسَمَّى خَمْرًا، كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ شَمَّةٌ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، وَكَمَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَاقُضِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمِقْدَارَ الْمُسْكِرَ لِزَيْدٍ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُسْكِرًا لِعَمْرٍو، وَلَا يَزَالُ بَعْضُ النَّاسِ يَبْحَثُ عَنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ حَتَّى الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْكِرِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنْ كَانَتْ وَقَائِعَ أَحْوَالٍ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَخْرَجًا عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَعَمَلِ أَهْلِ الدِّينِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، قَدْ تَقَدَّمَ تَفْنِيدُ الْمَزَاعِمِ وَدَحْضُ الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَأَمْثَالُهِمْ كَالَّذِينِ زَعَمُوا أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ قَدْ نُسِخَ، نَعَمْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي حَدِيثِ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» هِيَ الشَّرْبَةُ الَّتِي تُسْكِرُ، وَحَجَّاجٌ هَذَا ضَعِيفٌ وَمُدَلِّسٌ وَمَا زَعَمَهُ مَرْدُودٌ لُغَةً فَلَا يَقُولُهُ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُشِيرَ إِلَى تَعِلَّاتِ مَنْ يُقْدِمُونَ عَلَى شُرْبِ أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ لِأَجْلِ السُّكْرِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَفَقَدَ فَاتَ زَمَنُ الَّذِينَ كَانُوا يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ بِتَرْكِ النَّبِيذِ الَّذِي هُوَ نَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَنَحْوِهِمَا زَمَنًا يُسْكِرُ فِيهِ كَثِيرُهُ ثُمَّ قَلِيلُهُ وَيَشْرَبُونَهُ عَلَى تَوَهُّمٍ أَنَّهُ حَلَالٌ، فَإِنْ سَكِرُوا أَحَالُوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ الْكَثْرَةِ أَوْ عَلَى جَوْرِ السُّقَاةِ عَلَيْهِمْ وَكَابَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ السُّكْرَ، كَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمُتْرَفِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى، حَتَّى عُزِيَ إِلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَبَعْضِ رِجَالِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ.
مَنِ اخْتَبَرَ حَالَ الْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الدُّنْيَا، وَالْمُبْتَدِئِينَ بِشُرْبِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ ضَرَرِهَا فِي الْآخِرَةِ، يَرَى بَيْنَهُمَا شَبَهًا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْوِي فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَسَادٌ يُذْكَرُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ مَنْ قَالُوا إِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ لَيْسَ كَالْكَثِيرِ فَيَكُونُ اطْمِئْنَانُهُمْ أَشَدَّ، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ وَيُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَمِنْهُمُ الْمُتَفَقِّهَةُ وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ فَالْمُتَفَقِّهَةُ يُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلًا بِمَسْأَلَةِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَحِكْمَتِهِ، وَقَدْ فَنَّدْنَا شُبْهَتَهُمْ هَذِهِ فِيمَا سَبَقَ، وَغَيْرُ الْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عَفْوِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ التَّعَوُّدِ وَالْإِدْمَانِ، كَمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ هُمْ وَالْمُتَفَقِّهَةُ بَعْدَهُ عِنْدَمَا يَعْلَمُونَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْعَمَلِ أَنَّ قَلِيلَ الْخَمْرِ يُفْضِي إِلَى كَثِيرِهَا، وَيَرَوْنَ أَنْفُسَهُمْ قَدِ انْغَمَسَتْ فِي شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا.
فَالتُّكَأَةُ الْأَخِيرَةُ لِمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ أَهْلِ الدِّينِ هِيَ تُكَأَةُ أَكْثَرِ الْمُرْتَكِبِينَ لِسَائِرِ الْمَعَاصِي وَهِيَ الْغُرُورُ بِكَرَمِ اللهِ وَعَفْوِهِ، إِمَّا بِضَمِيمَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلاسيما مَا يُسَمَّى مِنْهَا بِالْمُكَفِّرَاتِ، أَوْ عَلَى الشَّفَاعَاتِ، وَإِمَّا بِدُونِ ضَمِيمَةٍ، وَمِنْ مُكَفِّرَاتِ الذُّنُوبِ مَا لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ وَمِنْهَا مَا لَا أَصْلَ لَهُ، وَمَا لَهُ أَصْلٌ قَيَّدُوهُ بِالصَّغَائِرِ أَوْ بِمُقَارَنَةِ التَّوْبَةِ لَهُ، وَقَدْ فَنَّدْنَا جَهْلَ هَؤُلَاءِ وَغُرُورِهِمْ فِي مَبَاحِثِ التَّوْبَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ): {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (4: 17) وَتَفْسِيرَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (4: 31).
(فِي ص 39 وَمَا بَعْدَهَا ج5 ط الْهَيْئَةِ) وَهَذَا الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ يَرْسَخُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ، بِمَا نَظَمَهُ وَيَنْظِمُهُ لَهُمْ فُسَّاقُ الشُّعَرَاءِ، كَقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ الشَّهِيرِ بِالسُّكْرِ وَالْفُجُورِ:
تَكَثَّرْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الْمَعَاصِي ** فَإِنَّكَ وَاجِدٌ رَبًّا غَفُورا

تَعُضُّ نَدامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا ** تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا

وَقَوْلُهُ مِنْ قَصِيدَةٍ يَذْكُرُ بِهَا اسْتِعَانَتَهُ بِالْخَمْرِ عَلَى الْفُجُورِ بِغُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ هَرَبَ مِنْهُ إِلَى دَيْرٍ وَتَرَهَّبَ فِيهِ:
وَرَجَوْتُ عَفْوَ اللهِ مُعْتَمِدًا ** عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ مُحَمَّدِ الْمَبْعُوثِ.

لَوْ صَحَّ مَا يَهْذِي بِهِ هَؤُلَاءِ الْفُجَّارُ، لَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لَغْوًا وَعَبَثًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَحَاشَا لِلَّهِ.