فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَمَنِ اعتدى} أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد {بَعْدَ ذَلِكَ} الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة.
وقيل: بعد التحريم والنهي، ورد بان النهي والتحريم ليس أمرًا حادثًا ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل: بعد الابتلاء ورد بان الابتلاء نفسه لا يصلح مدار التشديد والعذاب بل ربما يتوهم كونه عذرًا مسوغًا لتحقيقه.
وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال: ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم أن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض.
والمتبادر على ما قيل: أن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل: هو في الدنيا.
فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدًا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضًا، وقيل: المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام.
ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} تصريح بالتحذير الذي أومأ إليه بقوله: {ليبلونّكم}، إذ قد أشعر قوله: {ليبلونّكم} أنّ في هذا الخبر تحذيرًا من عمل قد تسبق النفس إليه.
والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من {ليبلونّكم}، أي بعدما قدّمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع.
والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسمّاه اعتداء لأنّه إقدام على محرّم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم.
وقوله: {فله عذاب أليم}، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما، وبما خالف إنذار الله تعالى، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة، فالتوبة معلومة من أصول الإسلام، والكفارة هي جزاء الصيد، لأنّ الظاهر أنّ الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: العذاب الأليم أنّه يوسَع بطنُه وظهرُه جلْدًا ويُسلَبُ ثيابَه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية.
فالعذاب هو الأذى الدنيوي، وهو يقتضي أنّ هذه الآية قرّرت ما كان يفعله أهل الجاهلية، فتكون الآية الموالية لها نسخًا لها.
ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدلّ ذلك على أنّه أبطل بما في الآية الموالية، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها.
ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم.
فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلاّ التوبة، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديبًا، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام، والظاهر أنّ سَلَبَه كان يأخذه فقراء مكة مثل جِلال البُدن ونِعالها. اهـ.

.قال في روح البيان:

والإشارة في الآية أن الله تعالى جعل البلاء للولاء كاللهب للذهب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}.
أباح الصيد لمن كان حَلاَلًا، وحرَّم الصيد على المُحْرِم الذي قَصْدهُ زيارة البيت. والإشارة فيه أن من قصد بيتنا فينبغي أن يكون الصيد منه في الأمان، لا يتأذى منه حيوان بحال، لذا قالوا: البَرُّ مَنْ لا يؤذي الذر ولا يُضْمِر الشر.
ويقال الإشارة في هذا أَنْ مَنْ قصَدَنا فعليه نَبْذُ الأطماعِ جملةً، ولا ينبغي أن تكون له مطالبة بحالٍ من الأحوال.
وكما أنَّ الصيدَ على المُحْرِم حرامٌ إلى أن يتحلل فكذلك الطلب والطمع والاختيار- على الواجِد- حرامٌ ما دام مُحْرِمًا بقلبه.
ويقال العارفُ صيدُ الحق، ولا يكون للصيد صيد. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلَوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ}.
في قوله ليبلونكم تأويلان:
أحدهما: معناه لَيُكَلِّفَنَّكُمْ.
الثاني: لَيَخْتَبِرَنَّكُم، قاله قطرب، والكلبي.
وفي قوله: {مِّنَ الصَّيْدِ} قولان:
أحدهما: أن {مِّنَ} للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر، وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال.
والثاني: أن {مِّنَ} في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس نحو قوله تعالى: {اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ} [الحج: 30] قاله الزجاج.
{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فيه تأويلان:
أحدهما: ما تناله أيدينا: البيض، ورماحنا: الصيد، قال مجاهد.
والثاني: ما تناله أيدينا: الصغار، ورماحنا: الكبار، قاله ابن عباس.
{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أن معنى ليعلم الله: ليرى، فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه، قاله الكلبي.
والثاني: ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب.
والثالث: لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب.
والرابع: معناه لتخافوا الله بالغيب، والعلم مجاز، وقوله: {بِالْغَيْبِ} يعني بالسر كما تخافونه في العلانية.
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} يعني فمن اعتدى في الصيد بعد ورود النهي.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم، قال الكلبي: نزلت يوم الحديبية وقد غشي الصيد الناس وهم محرمون. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}.
فيه ثمان مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار.
وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعًا عند الجميع منهم، مستعملًا جدًا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألاّ يعتدوا في السبت.
وقيل: إنها نزلت عام الحديبية؛ أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض صيدٌ اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانًا لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجّهم وعُمرتهم.
الثانية اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما أنهم المُحِلّون؛ قاله مالك.
الثاني أنهم المحرمون قاله ابن عباس؛ وتعلق بقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام.
قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ فإن التكليف يتحقق في المُحِّل بما شُرط له من أُمور الصيد، وما شُرع له من وصفه في كيفية الاصطياد.
والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس مُحلّهم ومُحرمهم؛ لقوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} أي ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضّعف والشدّة.
الثالثة قوله تعالى: {بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} يريد ببعض الصيد، فمِن للتبعيض، وهو صيد البر خاصّة؛ ولم يعمّ الصيد كله لأن للبحر صيدا، قاله الطَّبَريّ وغيره.
وأراد بالصيد المصيد؛ لقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ}.
الرابعة قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} بيان لحكم صغار الصيد وكباره.
وقرأ ابن وثّاب والنَّخَعيّ: {يناله} بالياء منقوطة من تحت.
قال مجاهد: الأيدي تنال الفِراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفِر، والرّماح تنال كبار الصيد.
وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} وكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى.
الخامسة خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عُظْم التصرف في الاصطياد؛ وفيها تدخل الجوارح والحِبالات، وما عمل باليد من فِخاخ وشِباك؛ وخص الرّماح بالذكر لأنها عُظْم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه؛ وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أوّل السورة بما فيه الكفاية والحمد لله.
السادسة ما وقع في الفخّ والحِبالة فلربّها، فإن ألجا الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه.
وما وقع في الجُبَحْ المنصوب في الجبل من ذباب النّحل فهو كالحِبالة والفخّ، وحمام الأبرجة تُردّ على أربابها إن استطيع ذلك، وكذلك نحل الجِباح؛ وقد روي عن مالك.
وقال بعض أصحابه: إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يردّه.
ولو ألجأت الكلاب صيدًا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسِل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت.
السابعة احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعدُ شيئًا، وهو قول أبي حنيفة.
الثامنة كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} يعني أهل الإيمان، لقوله تعالى في صدر الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ} فخرج عنهم أهل الكتاب.
وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} وهو عندهم مثل ذبائحهم.
وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه.
قلت: هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعًا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الإلزام؛ فأما إن كان مشروعًا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم.
والله أعلم. اهـ.