فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة. وعن الزهري نزل كتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. قال صلى الله عليه وسلم «في الضبع كبش إذا قتله المحرم» وقالت الصحابة: في الظبي شاة. أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ. ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة قياسًا على ما لا مثل له. حجة الشافعي قوله تعالى: {من النعم} فإنه بيان للمثل وكذا قوله: {هديًا بالغ الكعبة} وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش. وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم. فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بحمل- وفي رواية بعناق- وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة، وفي الحمام بشاة، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة. والعب شرب الماء مرة، والهدير ترجيعه صوته وتغريده. وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهًا بالصيد من النعم، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار. والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها، والعناق الأنثى من أولاد المعز. وأيضًا المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل.
وهاهنا مسائل:
الأولى: جماعة محرومون قتلوا صيدًا. فالشافعي وأحمد وإسحاق: لا يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحدًا يقتص منهم جميعًا، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيدًا فقتلوا صيدًا واحدًا لزم كلًا منهم كفارة. وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان.
الثانية: قال الشافعي: المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف.
وقال أبو حنيفة: يضمن لما روي أن عمر عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال.
الثالثة: قال الشافعي: إذا جرح ظبيًا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشادًا إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكًا في ذبح الشاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان. وقال المزني: عليه شاة. وقال داود: لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط.
الرابعة: إذا قتل المحرم صيدًا وأدى جزاءه ثم قتل صيدًا آخر لزمه جزاء آخر خلافًا لداود، وينقل عن ابن عباس وشريح. حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه: من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم. حجة داود {ومن عاد فينتقم الله منه} فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.
الخامسة: قال الشافعي: إذا أصاب صيدًا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب، وكذا الكبير لأجل الصغير. والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقًا للمثلية. فالأنثى أفضل لأنها تلد، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن.
قوله سبحانه: {يحكم به ذوا عدل منكم} قال ابن عباس: أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا يفتقر إلى الاجتهاد. ورد بأن وجه المشابه بين النعم والصيد أيضًا يتوقف على الاجتهاد. عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبيًا في الإحرام فمات فسأل عمر- وكان الى جانبه عبد الرحمن ابن عوف- فقال له: ما ترى؟ قال: عليه شاة. قال: وأنا أرى ذلك، فاذهب فأهد شاة. قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره. قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. قال الشافعي: ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش. وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أن مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى. وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكمًا؟ إن كان القتل عمدًا عدوانًا فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة، وإن كان خطأ أو كان مضطرًا إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات.
وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيًا فسأل عمر فقال: احكم فيه. فقال: أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين. فقال: إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني. فقال الرجل: أرى فيه جديًا فقال عمر: فذلك فيه. وأيضًا فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أمينًا فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة. ولو حكم عدلان بأن الله له مثلًا وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ. قيل في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكعمل العامي بالفتوى، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضًا. وانتصب {هديًا} على أنه حال من {جزاء} عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل {مثل} عند من أضاف، أو حال من الضمير في {به} ووصف هديًا ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغًا الكعبة. والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة ولاسيما إذا كان مرتفعًا. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيًا لم يجز. قال الشافعي: يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضًا لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم. وقال أبو حنيفة: له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة. قوله: {أو كفارة} عطف على قوله: {فجزاء} و{طعام مساكين} بيان له. ومن أضاف فللبيان أيضًا أي كفارة من طعام مساكين مثل: خاتم فضة {أو عدل ذلك} الطعام {صيامًا} نصب على التمييز كقولك: لي مثله رجلًا. وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل غلامك إذا كان غلامًا يعدل غلامًا، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين. ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يومًا. ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يومًا وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين.
وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعامًا فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعًا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يومًا. وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان: ما له مثل من النعم وما ليس كذلك. فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحًا، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعامًا وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يومًا حيث كان. والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها. وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعامًا، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يومًا، فإن انكسر مد في القسمين صام يومًا لأن الصوم لا يتبعض. فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان: الحيوان والطعام والصيام. وفي القسم الثاني ركنان: الطعام والصيام و{أو} هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب. ووافق مالك وأبو حنيفة لأن «أو» للتخيير غالبًا، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله: {ليذوق وبال أمره} والتخيير ينافي التغليظ. ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال: الخيار إلى الحكمين قياسًا على تعيين المثل. ثم إن يكن الصيد مثليًا فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياسًا على كل متلف متقوّم، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة. وإن كان مثليًا وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ أنها محل الذبح لو كان يذبح. ولا جزاء عل المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي وفي قوله القديم- وبه قال مالك وأحمد- يلزمه القيمة بعدما أكل. وإذا ذبح المحرم صيدًا لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد- وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة- لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكًا وجب مع الجزاء القيمة للممالك. وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا، وكذا الكلام في الصيد الحرم إذا ذبح.
أما قوله: {ليذوق} فإنه متعلق بقوله: {فجزاء} أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق، ويحتمل أن يقال: يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام. والتركيب يدور على الثقل يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة. والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضًا، وكل منها نوع عقوبة {عفا الله عما سلف} في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام. وعلى مذهب داود {عفا الله عما سلف} في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء {ومن عاد} فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء {فينتقم الله منه} أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه. اهـ.

.قال سيد قطب:

ثم يمضي السياق في مجال التحريم والتحليل، يتحدث عن الصيد في حالة الإحرام، وكفارة قتله، وعن حكمة الله في تحريم البيت والأشهر الحرم والهدي والقلائد، التي نهى عن المساس بها في مطالع السورة.. ثم يختم هذه الفقرة بوضع ميزان القيم للنفس المسلمة وللمجتمع المسلم.. الميزان الذي يرجح فيه الطيب وإن قل، على الكثير والخبيث:
{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام. أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا واتقوا الله الذي إلية تحشرون. جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم. اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم. ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون. قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون}.
لقد قال تعالى للذين آمنوا في أول هذه السورة: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد. يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلًا من ربهم ورضوانًا. وإذا حللتم فاصطادوا..} وكان هذا النهي عن إحلال الصيد وهم حرم؛ وعن إحلال شعائر الله، أو الشهر الحرام أو الهدي والقلائد، أو قاصدي البيت الحرام، لا يرتب عقوبة في الدنيا على المخالف، إنما يلحقه الإثم.