فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالآن يبين العقوبة وهي الكفارة {ليذوق وبال أمره} ويعلن العفو عما سلف من إحلال هذه المحارم؛ ويهدد بانتقام الله ممن يعود بعد هذا البيان.
وتبدأ هذه الفقرة كما تبدأ كل فقرات هذا القطاع بالنداء المألوف: {يا أيها الذين آمنوا}.. ثم يخبرهم أنهم مقدمون على امتحان من الله وابتلاء؛ في أمر الصيد الذي نهوا عنه وهم محرمون:
{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
إنه صيد سهل، يسوقه الله إليهم. صيد تناله أيديهم من قريب، وتناله رماحهم بلا مشقة. ولقد حكي أن الله ساق لهم هذا الصيد حتى لكان يطوف بخيامهم ومنازلهم من قريب!.. إنه الإغراء الذي يكون فيه الابتلاء.. إنه ذات الإغراء الذي عجزت بنو إسرائيل من قبل عن الصمود له، حين ألحوا على نبيهم موسى عليه السلام أن يجعل الله لهم يومًا للراحة والصلاة لا يشتغلون فيه بشيء من شئون المعاش. فجعل لهم السبت. ثم ساق إليهم صيد البحر يجيئهم قاصدًا الشاطئ متعرضًا لأنظارهم في يوم السبت. فإذا لم يكن السبت اختفى، شأن السمك في الماء. فلم يطيقوا الوفاء بعهودهم مع الله؛ وراحوا- في جبلة اليهود المعروفة- يحتالون على الله فيحوّطون على السمك يوم السبت ولا يصيدونه؛ حتى إذا كان الصباح التالي عادوا فأمسكوه من التحويطة! وذلك الذي وجه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم لأن يواجههم ويفضحهم به في قوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} هذا الابتلاء بعينه ابتلى به الله الأمة المسلمة، فنجحت حيث أخفقت يهود.. وكان هذا مصداق قول الله سبحانه في هذه الأمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم. منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ولقد نجحت هذه الأمة في مواطن كثيرة حيث أخفق بنو إسرائيل. ومن ثم نزع الله الخلافة في الأرض من بني إسرائيل وائتمن عليها هذه الأمة. ومكن لها في الأرض ما لم يمكن لأمة قبلها. إذ أن منهج الله لم يتمثل تمثلًا كاملًا في نظام واقعي يحكم الحياة كلها كما تمثل في خلافة الأمة المسلمة.. ذلك يوم أن كانت مسلمة. يوم أن كانت تعلم أن الإسلام هو أن يتمثل دين الله وشريعته في حياة البشر. وتعلم أنها هي المؤتمنة على هذه الأمانة الضخمة؛ وأنها هي الوصية على البشرية لتقيم فيها منهج الله، وتقوم عليه بأمانة الله.
ولقد كان هذا الاختبار بالصيد السهل في أثناء فترة الإحرام أحد الاختبارات التي اجتازتها هذه الأمة بنجاح. وكانت عناية الله سبحانه بتربية هذه الأمة بمثل هذه الاختبارات من مظاهر رعايته واصطفائه.
ولقد كشف الله للذين آمنوا في هذا الحادث عن حكمة الابتلاء:
{ليعلم الله من يخافه بالغيب}.
إن مخافة الله بالغيب هي قاعدة هذه العقيدة في ضمير المسلم. القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء العقيدة، وبناء السلوك، وتناط بها أمانة الخلافة في الأرض بمنهج الله القويم..
إن الناس لا يرون الله؛ ولكنهم يجدونه في نفوسهم حين يؤمنون.. إنه تعالى بالنسبة لهم غيب، ولكن قلوبهم تعرفه بالغيب وتخافه. إن استقرار هذه الحقيقة الهائلة- حقيقة الإيمان بالله بالغيب ومخافته- والاستغناء عن رؤية الحس والمشاهدة؛ والشعور بهذا الغيب شعورًا يوازي- بل يرجح- الشهادة؛ حتى ليؤدي المؤمن شهادة: بأن لا إله إلا الله. وهو لم ير الله.. إن استقرار هذه الحقيقة على هذا النحو يعبر عن نقلة ضخمة في ارتقاء الكائن البشري، وانطلاق طاقاته الفطرية، واستخدام أجهزته المركوزة في تكوينه الفطري على الوجه الأكمل؛ وابتعاده- بمقدار هذا الارتقاء- عن عالم البهيمة التي لا تعرف الغيب- بالمستوى الذي تهيأ له الإنسان- بينما يعبر انغلاق روحه عن رؤية ما وراء الحس، وانكماش إحساسه في دائرة المحسوس، عن تعطل أجهزة الالتقاط والاتصال الراقية فيه، وانتكاسه إلى المستوى الحيواني في الحس «المادي»!
ومن ثم يجعلها الله سبحانه حكمة لهذا الابتلاء؛ ويكشف للذين آمنوا عن هذه الحكمة كي تحتشد نفوسهم لتحقيقها..
والله سبحانه يعلم علمًا لَدُنِّيًا من يخافه بالغيب. ولكنه سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه عنهم علمًا لدنيا. إنما يحاسبهم على ما يقع منهم فيعلمه الله سبحانه علم وقوع..
{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
فقد أخبر بالابتلاء، وعرف حكمة تعرضه له، وحذر من الوقوع فيه؛ وبذلت له كل أسباب النجاح فيه.. فإذا هو اعتدى- بعد ذلك- كان العذاب الأليم جزاء حقًا وعدلًا؛ وقد اختار بنفسه هذا الجزاء واستحقه فعلًا.
بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءًا بالنهي مختومًا بالتهديد مرة أخرى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم. ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام}.
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدًا.
فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة.. فإذا كان القتل عمدًا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله. فالغزالة مثلًا تجزئ فيها نعجة أو عنزة. والأيِّل تجزئ فيه بقرة. والنعامة والزرافة وما إليها تجزئ فيها بدنة.. والأرنب والقط وأمثالهما يجزئ فيه أرنب. وما لا مقابل له من البهيمة يجزئ عنه ما يوازي قيمته..
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل. فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديًا حتى تبلغ الكعبة، تذبح هناك وتطعم للمساكين. أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد «خلاف فقهي». فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة. مقدرًا ثمن الصيد أو البهيمة، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين.. أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي. ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال.
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة:
{ليذوق وبال أمره}.
ففي الكفارة معنى العقوبة، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدًا كبيرًا: لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف:
{عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام}.
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام!
ذلك شأن صيد البر. فأما صيد البحر فهو حلال في الحل والإحرام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد السمرقندي في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يعني: وأنتم محرمون ويقال: وأنتم محرمون أو في الحرم.
ثم بيّن الكفارة فقال: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّدًا فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} يعني: عليه الفداء مثل ما قتل.
قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي: {فَجَزَاء مّثْلُ} بتنوين الهمزة وبضم اللام.
وقرأ الباقون: بالضم بغير تنوين وبكسر اللام.
فأما من قرأ: بالتنوين.
فمعناه: فعليه جزاء، ثم صار المثل نعتًا للجزاء.
وأما من قرأ: بغير تنوين فعلى معنى الإضافة إلى الجزاء يعني: عليه جزاء ما قتل من النعم، يشتري بقيمته من النعم ويذبحه.
يعني: إذا كان المقتول يوجد النعم.
ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} يعني: رجلان مسلمان عدلان ينظران إلى قيمة المقتول، ثم يشتري بقيمته {هَدْيًا بالغ الكعبة} يعني: يبلغ بالهدي مكة ويذبحه هناك ويتصدق بلحمه على الفقراء.
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} يعني: إن شاء يشتري بقيمته طعامًا ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من حنطة {أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} يعني: يصوم مكان كل نصف صاع من حنطة يومًا.
قال ابن عباس: إنما يقوّم لكي يعرف مقدار الصيام من الطعام؛ فهو بالخيار بين هذه الأشياء الثلاثة إن شاء أطعم، وإن شاء أهدى، وإن شاء صام.
قرأ نافع وابن عامر: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} بغير تنوين على معنى الإضافة.
وقرأ الباقون {كَفَّارَةُ} بالتنوين والطعام نعتًا لها.
ثم قال: {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يعني: عقوبة ذنبه لكي يمتنع عن قتل الصيد.
{عَفَا الله عَمَّا سَلَف} يعني: عما مضى قبل التحريم {وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} يعني: يعاقبه الله تعالى.
ومع ذلك يجب عليه الكفارة.
وقال بعضهم: لا يجب عليه الكفارة إذا قتل مرة أخرى.
وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه سئل عن المحرم يصيب الصيد فيحكم عليه، ثم يصيبه أيضًا قال: لا يحكم عليه، وتلا هذه الآية {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} فذلك إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه.
وعن شريح: أن رجلًا أتاه فسأله أن يحكم عليه فقال له شريح: هل أصبت صيدًا قبله؟ قال: لا.
قال: لو كنت أصبته قبل ذلك لم أحكم عليك.
وقال بعضهم: سواء قتل قبل ذلك أو لم يقتل فهو سواء.
لأنه قاتل في المرة الثانية كما هو قاتل في المرة الأولى.
وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم أنهم حكموا ولم يسألوه أنك أصبت قبل ذلك أم لا.
وروى ابن جريج عن عطاء أنه سئل عن قوله: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} قال: يعني: ما كان في الجاهلية.
ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، ومع ذلك عليه الكفارة.
وروى سعيد بن جبير مثله.
وقد قال بعض الناس: إنه إذا قتل خطأ فلا تجب عليه الكفارة.
وهذا القول ذكر عن طاوس اليماني.
وقال غيره: تجب عليه الكفارة.
وروى ابن جريج عن عطاء قال سألت عن قوله: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّدًا} فلو قتله خطأ أيغرم؟ قال: نعم يعظم بذلك حرمات الله.
ومضت به السنن.
وعن الحسن قال: يحكم عليه في الخطأ والعمد.
وعن إبراهيم النخعي وعن مجاهد مثله.
وبهذا القول نأخذ ونقول: بأن العمد والخطأ سواء، والمرة الأولى والثانية سواء.
ثم قال تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} من أهل المعصية آخذ الصيد بعد التحريم.
ويقال: {وَمَنْ عَادَ} مستحلًا أو مستخفًا بأمر الله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} يعني: يعذبه الله تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} يعذب من عصاه. اهـ.