فصل: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ} الآية (187):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ} الآية (187):

الرفث يقع على الجماع ويقع على الكلام الفاحش، والمراد به الجماع هاهنا لأنه الذي يمكن أن يقال فيه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} ولا خلاف فيه.

.وقوله: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ}:

يعني كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه.
ويحتمل أن يراد باللباس الستر، لأن اللباس هو ما يستره، وقد سمى اللّه تعالى الليل لباسا لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه، فالمراد بالآية أن كل واحد منهما يستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه، ويكون كل واحد منهما متعففا بالآخر مستترا به.

.قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}:

أي يساتر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع، والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} يعني: يقتل بعضكم بعضا.
ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وكان خائنا لنفسه من حيث كان صرره عائدا إليه.
ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المساتر له، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها، والخيانة انتقاص الحق على وجه المساترة.

.وقوله: {فَتابَ عَلَيْكُمْ}:

يحتمل معنيين:
أحدهما: قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم.
والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ}.
{وَعَفا عَنْكُمْ} يعني خفف عنكم.
وذكر عقيب قتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} يعني تخفيفا، لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئا يلزمه التوبة منه.
وقال اللّه تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} وإن لم يكن من النبي عليه السلام ما يوجب التوبة منه.

.وقوله: {وَعَفا عَنْكُمْ}:

يحتمل العفو عن المذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل كقول النبي عليه السلام: «أول الوقت رضوان اللّه، وآخره عفو اللّه»، يعني تسهيله وتوسعته.

.قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (187):

كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه خيطا أبيض وخيطا أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا، قال: فذكر سهل بن سعد الساعدي- وهو راوي الحديث- أنهم كانوا على ذلك حتى نزل قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما عنى بذلك الليل والنهار، ولا يجوز أن لا يكون في قوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} بيان للحكم مع الحاجة، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز أصلا.
ويجوز أن يكون التجوز بالخيط الأبيض عن الفجر سائغا في لغة قريش دون غيرها من اللغات، فأشكل على قوم آخرين، حتى تبين لهم بقوله من الفجر، ولا يجب أن يكون البيان بلغة يشترك في معرفتها جميع الناس قبل أن يتبين لهم بلغة من كان بيانا في لغتهم.
ويجوز أن يكون قد قال: {مِنَ الْفَجْرِ} أولا، لكن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} يحتمل أن يكون تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، على معنى أنه يتبين الخيطان من أجل الفجر، ويحتمل أن يكون المستبان في نفسه هو الفجر.
فإن قيل: كيف يشبه الليل بالخيط الأسود وهو يشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بخيط مستطيل أو معترض في الأفق، أما الليل فليس بينه وبين الخيط مشاكلة؟
الجواب: أن الخيط الأسود هو السواد الذي في المواضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فلأجل ذلك سمي الخيط الأسود، وإذا أباح اللّه الأكل والشرب إلى أن يتبين، فيدل ذلك على جواز الأكل قبل التبين حالة الشك.
ويدل على أنه لا نظر إلى الشك إذا أمكن درك اليقين، وأنه يجوز استصحاب حكم الليل في حق الشاك.
وفيه الدلالة على أن الجنابة لا تنافي صحة الصوم، لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره، مع العلم بأن المجامع من الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر، أنه يصبح جنبا، ثم حكم مع ذلك بصحة صيامه بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}.
والذي يخالف هذا يقول، إنما أبيح الأكل إلى الفجر لا الجماع، فإنه لم يقل: وباشروهن إلى أن يتبين.
وفيه دليل على أن البياض بعد تبين الفجر من النهار، بخلاف البياض بعد غروب الشمس.
وظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر، فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع، فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل، فلا قضاء عليه، كذلك قاله مجاهد وجابر بن زيد، ولا خلاف في وجوب القضاء، إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، إذا أكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه.

.قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} (187):

ظاهر ذلك يقتضي تحريم المباشرة مطلقا لشهوة وغير شهوة، والمباشرة أن تتصل بشرته ببشرتها، إلا أن عائشة كانت ترجل شعر رسول اللّه وهو معتكف، فكانت لا محالة تمس بدن الرسول عليه السلام بيدها، ودل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة.
وزعم قوم أن الآية لا تدل على المباشرة بالشهوة أيضا، بعد أن اتفق الناس على أن الجماع مراد به، لأن الكناية بها عن الجماع مجاز، وإذا حمل اللفظ على المجاز فلا يحمل بعينه هو على الحقيقة.
وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المباشرة عموم في الجماع، لا بطريق المجاز، بل من حيث أن الجماع مباشرة، إذ المباشرة هي الإفضاء ببشرته إلى بشرة صاحبه، فإذا كانت حقيقة المباشرة- لا من حيث المجاز- إلصاق البشرة بالبشرة فهي عامة في الجماع وغيرها، فدلالتها على الجماع من حيث الحقيقة لا من حيث المجاز.
قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} يقتضي أن يكون الحظر مختصا بالمسجد، حتى لو جامع عند الخروج لا يبطل اعتكافه:
ويحتمل أن يقال: قوله: {وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} معناه: لا تباشروهن حال ما يقال لكم إنكم عاكفون في المساجد، والرجل وإن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فهو عاكف، واعتكافه باق.
وأمكن أن يقال: لا يقال له عاكف في المسجد بل يقال: لم يبطل تتابع اعتكافه، فأما أن يكون عاكفا في المسجد لفظا وإطلاقا وهو خارج منه فلا.
ولما كان الرجل باعتبار قعوده في المسجد، لا يقال له عاكف، إذا كان يخرج ويرجع على ما جرت به العادة، وإنما يقال عاكف للمواظب، فيقتضي ذلك زوال اسم العاكف عنه، إذا كان يتردد في حاجاته، ويخرج لأشغاله، إلا ما لابد له منه.

.قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} (188):

فيه دلالة على أن حكم الحاكم لا يغير بواطن الأحكام، ولأن الحاكم يحكم بالظاهر وهو مصيب في عمله، لا أنه مصيب ما عند اللّه تعال حقيقة.

.قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (189):

سماه على وحدته أهلة إذ الأهلة ليست اسما للقمر، وإنما سمي الهلال هلالا في أول ما يرى، وما قرب منه لظهوره في ذلك بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج وهو إظهار التلبية، واستهلال الصبى ظهور حياته بصوت أو حركة، ويقولون تهلل وجهه إذا ظهر فيه البشر والسرور، وليس هناك صوت مرفوع حتى يقال: الإهلال رفع الصوت وإن إهلال الهلال من ذلك لرفع الصوت عند رؤيته، قال تأبط شرا:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل

وأمكن أن يقال متهلل لصوت الرعد فإن البرق لا يخلو منه، واستدل به أصحاب أبي حنيفة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج فحملوه على الإحرام به.
فقيل لهم: فقد قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} فأجابوا بأنه لابد في الكلام من ضمير ولا بيان فيه دونه، فإن الحج فعل الحاج، وفعل الحاج لا يكون أشهرا، فلابد أن يكون المراد به أفعال الحج ومعناه أفعال الحج في أشهر معلومات. فقيد تخصيص أفعال الحج بالأشهر المعلومات، وهو كذلك، فإنه لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، وطاف له وسعى قبل أشهر الحج، فسعيه ذلك لا يجزيه، وعليه أن يعيده، لأن أفعال الحج لا تجزئ قبل أشهر الحج، فعلى هذا معنى قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} أي أن أفعاله في أشهر معلومات.
وهذا غلط، فإنه إذا قال: أشهر معلومات فيجب أن يقع في الأشهر، فيكون الأشهر المعلومات ظرفا، ويكون الفعل واقعا في جميعه، كالإحرام يقع في الأشهر ويبقى في الأشهر، فيقال هو في الأشهر محرم.
ولا يجوز أن يكون الفعل الذي هو السعي يقع في الأشهر، وإنما يقع في ساعة من يوم، ولا يجوز أن يكون المراد به بقاء الإحرام كما قالوه، فإنهم قالوا: إذا أحرم بالحج في أشهر الحج أو في غيرها، فإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الإحرام، فقول اللّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} يعني: دوام الحج وبقاؤه أشهر، وهذا باطل، فإن الذي ذكروه من بقاء الإحرام، ليس يتحدد له أشهر معلومات، فإنه لو أحرم من وقت الفوات، دام الإحرام والحج إلى مثل ذلك الوقت من العام القابل، والحج لا يتعين له أشهر، بل أشهره جميع السنة، وإنما يفوت في وقت خاص، ولا يبقى أكثر من سنة قط، فإذا بطلت تأويلاتهم، بقي تأويل الآية التي تعلقوا بها، ووجه ذلك أن قوله: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} معناه: قل هي مواقيت للناس في الحج، فيحصل في الأهلة المعنيان من غير تفصيل، فلا دلالة في الآية على أن الأهلة يجب أن تكون مواقيت للحج.
نعم الأهلة كلها مواقيت للناس لا مفهوما من هذا اللفظ، فإن المفهوم من هذا اللفظ بيان فائدة الأهلة، والفائدة حصلت بما قلناه من غير تفصيل، ويدل عليه أن مراد اللّه تعالى من ذلك بيان الحاجة إلى الأهلة، ببيان منافعها في كونها مواقيت للناس، فإنما يقال ذلك فيما يعتاده الناس ويتعارفونه، وما اعتاد الناس قط الإحرام في غير أشهر الحج ولا ندبوا إليه، ولذلك سمي بعض الشهور أشهر الحج، وغير المعتاد لا يحصل به الامتياز في كونه ميقاتا، وما يعد ميقاتا أصلا، كما تعد الشهور كلها بأسرها مواقيت للأعمال والآجال، فهذا يدل على صحة هذا التأويل وبطلان تأويلات من يخالف هذا القول.

.قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} (189):

هو تنبيه من اللّه تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر اللّه تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا يشير به إلى أن تأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا اللّه تعالى إليه، وفيه بيان أن ما لم يشرعه اللّه تعالى قربة، ولا ندب إليه لا يصير قربة، بأن يتقرب به متقرب، ومثله تحريم الوصال الذي يتقرب به ولا تقرب فيه. والرهبانية التي يتقرب بها ولا تقرب فيها.
فرض الجهاد:

.قال اللّه عز وجل: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} (190) الآية:

ولا خلاف بين العلماء في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلى قوله: {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وقوله: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ} الآية..، {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا}.
وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابا له كانت أموالهم بمكة، فقالوا: يا رسول اللّه، كنا في عز ومنعة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال: «إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم»، فلما حوله إلى المدينة انكفوا، فأنزل اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وقوله: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قال: نسخ هذا كله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. الآية.
واختلف السلف في أول آية نزلت في القتال، فروي عن الربيع ابن أنس وغيره أن قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} أول آية نزلت في القتال.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال: أول آية نزلت في القتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية.
وقال آخرون: قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أول آية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم، والثانية نزلت في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم، ومن لم يقاتلهم من المشركين.
فقال الربيع بن أنس: أول آية نزلت في الإذن بالقتال في المدينة قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} فكان النبي عليه السلام بعد ذلك يقاتل من قاتله من المشركين ويكف عمن كف عنه إلى أن أمر بقتال الجميع، وهو مثل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}.
ويحتمل أن يقال إن قوله: {الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} لم يرد به حقيقة القتال، فإن جواز دفع المقاتل عن نفسه ما كان محرما قط، حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به الذين يقاتلونكم دينا، ويرون ذلك جائزا اعتقادا، ولم يرد به حقيقة القتال.
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، فإنه صلى اللّه عليه وسلم لما انصرف من صلح الحديبية إلى المدينة، حين صده المشركون عن البيت، صالحهم على أن يرجع عامة القابل، ويخلو له مكة ثلاثة أيام، فلما كان في العام القابل، تجهز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش، وأن يصدوهم عن البيت ويقاتلونهم، وكره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل اللّه تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} يعني قريشا الذين صالحوهم، {وَلا تَعْتَدُوا} فنبذوا في الحرم بالقتال، ودل عليه ظاهر ما بعده وهو قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني أن شركهم باللّه عز وجل، أعظم من قتلكم إياهم في الحرم، والذي كان منهم من تعذيب من أسلم وظفروا به، ليفتنوهم عن الدين، أعظم من قتالكم إياهم في الشهر الحرام.
وقال: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. معناه حتى لا يكون الشرك الذي هو باعث على الفتنة، ويكون الدين كله للّه، ولذلك لم يقبل العلماء الجزية من وثنيي العرب، فإن اللّه تعالى قال في حقهم: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
فأمر اللّه تعالى بقتالهم، حتى لا يكون الشرك ويكون الدين كله للّه.
وروي عن أبي بكر أنه أمر بقتال الشماسنة، لأنهم يشهدون القتال ويرون ذلك رأيا، وأن الرهبان من رأيهم أن لا يقاتلوا، فأمر أبو بكر أن لا يقتلوا، ثم قال: قد قال اللّه سبحانه: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ}. وحمل ذلك أبو بكر رضي اللّه عنه على المقاتلة دينا واعتقادا، فالآية على هذا ثابتة الحكم لا نسخ فيها.
وعلى قول الربيع بن أنس، أن النبي عليه السلام والمسلمين، كانوا مأمورين- بعد نزول الآية- بقتال من قاتل دون من كف عنهم، سواء كان ممن يتدين بالقتال أو لا يتدين وليس بصحيح.
وروي عن عمر بن عبد العزيز في قوله: {الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} قال: ذلك في النساء والذرية، فعلى هذا لا نسخ في الآية.
ويحتمل أن يقال: إن قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عام في الرجال والنساء والصبيان، وهم يقتلون إذا كانت المصلحة في قتلهم، على ما عرف من مذهب الشافعي رحمه اللّه فيه.
وإذا كانت المرأة مقاتلة بالمال والرأي والتدبير، وكانت ذات عز في قومها، فيجب قتلها، وإذا كانت المصلحة في استرقاقها، فنفع الاسترقاق إذا أوفى على قتلها، فلا يجوز قتلها.