فصل: من فوائد ابن عطية في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على التخيير بين إِخراج النظير وبين الصيام وبين الإِطعام.
والثاني: أنه على الترتيب، إِن لم يجد الهدي، اشترى طعامًا، فإن كان معسرًا صام، قاله ابن سيرين.
والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء.
قوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} أي: جزاء ذنبه.
قال الزجاج: «الوبال»: ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعامٌ وبيل، وماءُ وبيلٌ: إِذا كانا ثقيلين.
قال الله عز وجل: {فأخذناه أخذًا وبيلًا} [المزمل: 16] أي: ثقيلًا شديدًا.
قوله تعالى: {عفا الله عما سلف} فيه قولان:
أحدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء.
والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أوّل مرّة، حكاه ابن جرير، والأول أصح.
فعلى القول الأول يكون معنى قوله: {ومن عاد} في الإِسلام، وعلى الثاني: {ومن عاد} ثانية بعد أولى.
قال أبو عبيدة: {عاد} في موضع يعود، وأنشد:
إِن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحًا ** وإِن ذكِرْتُ بسوءٍ عندهم أذِنُوا

قوله تعالى: {فينتقم الله منه} «الانتقام»: المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إِيجاب جزاء ثانٍ إِذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد.
وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إِنما وعد بالانتقام. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}.
الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل {ليبلونكم} [المائدة: 94] و{الصيد} مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلًا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئًا بها، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلَّ به، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس فقال مالك في المدونة لا ينبغي للمحرم قتلها، قال أشهب في كتاب محمد: فإن فعل فعليه الجزاء، وقال أيضًا أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب، وقال مالك: يطعم قاتله شيئًا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه، وقال أصحاب الرأى لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى، وقال ابن القاسم في كتاب محمد: وأحب إليَّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه، ولكن إن فعل فلا شيء عليه.
قال القاضي أبو محمد: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال، وفرض الجزاء على من قتله و{حرم} جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام، وحرام، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع، واختلف العلماء في معنى قوله: {متعمدًا} فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد: معناه متعمدًا لقتله ناسيًا لإحرامه، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدًا ذاكرًا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد: قد حل ولا رخصة له، وقاله ابن جريج، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه، وقال ابن زيد: هذا يؤكل إلى نقمة الله، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأً يكفران.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأً أنهما يكفران، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأً كفارة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {فجزاءُ مثلِ ما} بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {فجزاء} بالرفع {مثلُ} بالرفع أيضًا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {فجزاء} بالرفع {مثلُ} بالرفع أيضًا فأما القراءة الأولى ومعناها بقولك أنا أكرمك، ونظير هذا قوله تعالى: {أفمن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} [الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: {فجزاء مثل} أني كون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعًا، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و{مثل} على هذه القراءة صفة لجزاء، أي فجزاء مماثل، وقوله تعالى: {من النعم} صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما، وقرأ عبد الله بن مسعود {فجزاؤه مثل ما} بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل، وقرأ أبو عبد الرحمن {فجزاءُ} بالرفع والتنوين {مثلَ ما} بالنصب، وقال أبو الفتح {مثل} منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتلول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء: في النعامة وحمار الوحش ونحوه بدنة، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة، وفي الظبي ونحوه كبش، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم، وفي اليربوع حمل صغير، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعامًا فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يومًا، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد فيها منها فلا شيءٍ عليه فيه.
قال القاضي أبو محمد: حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف، قال قبيصة: قلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك، قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عَدْوا.
ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعامًا، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يومًا، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد، وعند قوم صاع، وعند قوم بدل مدين، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخًا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملًا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين، وقال ابن وهب: إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة، يقوّم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته من النعم ثم يهدى، ورد الطبري وغيره على هذا القول، و{النعم} لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقرأ الحسن {من النعْم} بسكون العين وهي لغة، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرًا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال لا جزاء عليه، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال:
فأتيت عبد الرحمن وسعدًا فحكما عليّ تيسًا أعفر، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرًا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يومًا. وكذلك قال مالك في المدونة: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعامًا لا دراهم، قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعًا، والأول أصوب، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يومًا وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران، قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام، وقوله تعالى: {هديًا بالغ الكعبة} يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ، وذكرت {الكعبة} لأنها أم الحرم ورأس الحرمة، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم، بشرط أن يدخل من الحل لابد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغًا الكعبة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج {هدِيًّا بالغ الكعبة} بكسر الدال وتشديد الياء، و{هديًا} نصب على الحال من الضمير في {به}، وقيل على المصدر، و{بالغ} نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع، فتقديره بالغًا الكعبة حذف تنويه تخفيفًا، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي {أو كفارةً} منونًا {طعامُ مساكين} برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع، قال أبو علي: إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام، فالكفارة غير الطعام لكنها به، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمرو {أو كفارةٌ} بالرفع والتنوين {طعامُ} بالرفع دون تنوين {مسكين} على الإفراد وهو اسم الجنس، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيًا، وهذا عندهم مقتضى {أو}، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديًا، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان، قالوا: والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي.
ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعامًا، فمن قتل ظبيًا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم، ومن يجد طعامًا فإنما يجد جزاء، وأسنده أيضًا عن السدي.