فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذهب جماعة من التابعين إلى أن المماثلة هي في القيمة يقوم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته طعامًا من الأنعام ثم يهدى وهو قول النخعي وعطاء وأحد قولي مجاهد.
وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف يشتري بالقيمة هديًا إن شاء وإن شاء اشترى طعامًا فأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يومًا، وقال قوم المثلية فيما وجد له مثل صورة وما لم يوجد له مثل فالمثلية في القيمة وقد تعصب أبو بكر الرازي والزمخشري لمذهب أبي حنيفة.
ولفظ الآية ينبو عن مذهبه إذ ظاهر الآية يقتضي التخيير بين أن يجزىء هديًا من النعم مثل ما قتل وأن يكفر بطعام مساكين وأن يصوم عدل الصيام.
والظاهر أن الجزاء لا يكون إلا في القتل لا في أخذ الصيد ولا في جنسه ولا في أكله وفاقًا للشافعي وخلافًا لأبي حنيفة إذ قال عليه جزاء ما أكل يعني قيمته وخالفه صاحباه فقالا لا شيء عليه سوى الاستغفار لأنه تناول منه، ولا في الدلالة عليه خلافًا لأبي حنيفة وأشهب إذ قالا يضمن الدار الجزاء، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عوف، وقال الشافعي ومالك وأبو ثور لا يضمن الدال والجزاء على القاتل ولا في جرحه ونقص قيمته بذلك، وقال المزني عليه شيء، وقال بعض أهل العلم إذا نقص من قيمته مثلًا العشر فعليه عشر قيمته، وقال داود لا شيء عليه، والظاهر أنه لو اجتمع محرمون في صيد لم يجب عليهم إلا جزاء واحد لأنه لا ينسب القتل إلى كل واحد منهم.
فأما المقتول فهو واحد يجب أن يكون المثل واحد، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري يجب على كل واحد منهم جزاء واحد، والظاهر أنه إذا حمل قوله: {وأنتم حرم} على عنييه وهما محرمون بحج أو عمرة ومحرمون بمعنى داخلين الحرم وإن كانوا محلين، أنه إذا قتل المحلون صيدًا في الحرم أنه يلزمهم جزاء واحد، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك على كل واحد جزاء كامل وظاهر قوله: {من النعم} أنه لا يشترط سن فيجزىء الجفر والعناق على قدر الصيد وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية وهدي القرآن والظاهر من تقييد المنهيين عن القتل بقوله: {وأنتم حرم} أنه لو صاد الحلال بالحل ثم ذبحه في الحرم فلا ضمان وهو حلال وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة عليه الجزاء.
{يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة} أي يحكم بمثل ما قتل.
قال ابن وهب من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا، فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظرًا لما أصاب وأدنى الهدي شاة، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مدّ يومًا وكذلك قال مالك، والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكما في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم فيه امرأتان عدلتان، وقرأ جعفر بن محمد {يحكم به ذوا عدل} على التوحيد أي يحكم به من يعدل منكم ولا يريد به الوحدة، وقيل أراد به الإمام.
والظاهر أن الحكمين يحكمان في جزاء الصيد باجتهادهما وذلك موكول إليهما وبه قال أبو حنيفة ومالك وجماعة من أهل العلم، وقال الشافعي الذي له مثل من النعم وحكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهادهما فينظران إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهًا به يوجبانه، والظاهر أن الحكمين لا يكون أحدهما قاتل الصيد وهو قول مالك، وقال الشافعي: إن كان القتل خطأ جاز أن يكون أحدهما أو عمدًا فلا لأنه يفسق به واستدل بقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدل منكم} على إثبات القياس لأنه تعالى فرض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم.
وجوّزوا في انتصاب قوله: {هديًا} أن يكون حالًا من {جزاء} فيمن وصفه بمثل لأن الصفة خصصته فقرب من المعرفة وأن يكون بدلًا من مثل في قراءة من نصب مثلًا أو من محله في قراءة من خفضه وأن ينتصب على المصدر والظاهر أنه حال من قوله به ومعنى {بالغ الكعبة} أن ينحر بالحرم ويتصدّق به حيث شاء عند أبي حنيفة، وقال الشافعي بالحرم، وقرأ الأعرج {هديًا} بكسر الدال وتشديد الياء والجملة من قوله يحكم في موضع الصفة لقوله فجزاء أي حاكم به ذوا عدل وفي قوله: {منكم} دليل على أنهما من المسلمين وذكر الكعبة لأنها أم الحرام قالوا والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به يعرفه من هدي الجزاء ينحر بمنى وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم بشرط أن يدخل من الحل ولابد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغًا الكعبة.
{أو كفارة طعام مساكين} قرأ الصاحبان بالإضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة إذ الكفارة تكون كفارة هدي وكفارة طعام وكفارة صيام ولا التفات إلى قول الفارسي ولم يصف الكفارة إلى الطعام لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد، وأما ما ذهب إليه الزمخشري من زعمه أن الإضافة مبينة كأنه قيل أو كفارة من طعام مساكين، كقولك خاتم فضة، بمعنى خاتم من فضة فليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه والطعام ليس جنسًا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدًّا، وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع {طعام} وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس، قال أبو علي {طعام} عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة.
انتهى؛ وهذا على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلًا وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين والظاهر أنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين، وقال إبراهيم وعطاء ومجاهد والقاسم يقوّم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعامًا فيطعم كل مسكين نصف صاع، وروي هذا عن ابن عباس وبتقويم الصيد قال أبو حنيفة، وقال مجاهد وعطاء وابن عباس والشافعي وأحمد يقوّم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدى طعامًا، وقال مالك أحسن ما سمعت، إنه يقوّم الصيد فينظركم ثمنه من الطعام فيطعم لكل مسكين مدًّا ويصوم مكان كل مدّ يومًا.
{أَو عدل ذلك صيامًا} الأظهر أن يكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور وهو الطعام والطعام المذكور غير معين في الآية لا كيلًا ولا وزنًا فيلزم من ذلك أن يكون الصيام أيضًا غير معين عددًا والصيام مبني على الخلاف في الطعام أهو مدّ أو مدّان.
وبالمدّ قال ابن عباس ومالك وبالمدّين قال الشافعي وعن أحمد القولان، وجوّزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول وفي الظبي ثلاثة أيام وفي الإبل عشرون يومًا وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يومًا قاله ابن عباس، وقال ابن جبير ثلاثة أيام إلى عشرة أيام والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان وبه قال جماعة من العلماء فحيث ما شاء كفر بهما، وقال عطاء وغيره الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء، وقرأ الجمهور {أو عدل} بفتح العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرها وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة.
والظاهر أن أو للتخيير أي ذلك فعل أجزأه موسرًا كان أو معسرًا وهو قول الجمهور، وقال ابن عباس وإبراهيم وحماد بن سلمة لا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا لم يجد هديًا ولا إلى الصوم إلا إن لم يجد ما يطعم والظاهر أن التخيير راجع إلى قاتل الصيد وهو قول الجمهور، وقال محمد بن الحسن الخيار إلى الحكمين والظاهر أن الواجب أحد هذه الثلاثة فلا يجمع بين الإطعام والصيام بأن يطعم عن يوم ويصوم في كفارة واحدة وأجاز ذلك أصحاب أبي حنيفة وانتصب {صيامًا} على التمييز على العدل كقولك على التمرة مثلها زبدًا لأن المعنى أو قدر ذلك صيامًا.
{ليذوق وبال أمره} الذوق معروف واستعير هنا لما يؤثر من غرامة وإتعاب النفس بالصوم والوبال سوء عاقبة ما فعل وهو هتك حرمة الإحرام بقتل الصيد، قال الزمخشري ليذوق متعلق بقوله: {فجزاء} أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق انتهى.
وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف {فجزاء} أو نون ونصب {مثل} وأما على قراءة من نوّن ورفع {مثل} فلا يجوز أن تتعلق اللام به لأن {مثل} صفة لجزاء وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة لو قلت أعجبني ضرب زيد الشديد عمرًا لم يجز فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك والصواب أن تتعلق هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق ووقع لبعض المعربين أنها تتعلق بعدل ذلك وهو غلط.
{عفا الله عما سلف} أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم.
قال الزمخشريّ لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم، وكان الصيد فيها محرمًا انتهى، وقال ابن زيد: عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم.
{ومن عاد فينتقم الله منه} أي ومن عاد في الإسلام إلى قتل الصيد فإن كان مستحِلًا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر أو ناسيًا لإحرامه كفر بإحدى الخصال الثلاث أو عاصيًا بأن يعود متعمّدًا عالمًا بإحرامه فلا كفّارة عليه وينتقم الله منه بإلزام الكفّارة فقط وكلما عاد فهو يكفر.
وقال ابن عباس: إن كان متعمدًا عالمًا بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه.
وبه قال شريح والنخعي والحسن ومجاهد وابن زيد وداود وظاهر و{من عاد} لعموم ألا ترى أنّ {من} شرطيّة أو موصولة تضمنت معنى الشرط فتعمّ خلافًا لقوم إذ زعموا أنها مخصوصة بشخص بعينه وأسندوا إلى زيد بن العلاء أنّ رجلًا أصاب صيدًا وهو مُحرِم فتجوز له ثم عاد فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته وذلك قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} وعلى تقدير صحة هذا الحديث لا تكون هذه القضية تخص عموم الآية إذ هذا الرجل فرد من أفراد العموم ظهر انتقام الله منه والفاء في {فينتقم} جواب الشرط أو الداخلة على الموصول المضمّن معنى الشرط وهو على إضمار مبتدأ أي فهو ينتقم الله منه.
{والله عزيز ذو انتقام} أي عزيز لا يغالب إذا أراد أن ينتقم لم يغالبْه أحد، وفي هذه الجملة تذكار بنقم الله وتخويف. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ...} الآية (95).
فيه ثلاثون مسألة:
الأولى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ} هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} الآية.
وروى أن أبا اليَسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان مُحْرِما عام الحديبية بعُمْرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
الثانية قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} القتل هو كل فعل يفيت الروح، وهو أنواع: منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتًا للروح.
الثالثة من قتل صيدًا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله؛ وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: عليه جزاء ما أكل؛ يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا: لا شيء عليه سوى الاستغفار؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتةً أخرى؛ ولهذا لو أكلها محرِم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار.
وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود محظور إحرامه موجبًا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى.
الرابعة لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله؛ وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: ذبح المحرم للصيد ذكاة؛ وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام؛ فأفاد مقصوده من حِل الأكل؛ أصله ذبح الحلال.
قلنا: قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلًا، وإنما يفيدها الشرع؛ وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد؛ لقوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} فقد انتفت الأهلية بالنهي.