فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الموفية عشرين ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنًا.
وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظّبي والنّعامة لابد فيه من الحكومة، ويُجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم.
الحادية والعشرون لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكَمين؛ وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي في أحد قوليه: يكون الجاني أحد الحكمين؛ وهذا تسامح منه؛ فإن ظاهر الآية يقتضي جانيًا وحَكَمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزًا لاستغنى بنفسه عن غيره؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين.
الثانية والعشرون إذا اشترك جماعة محرِمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد جزاء كامل.
وقال الشافعي: عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبد الرحمن.
وروى الدَّارَقُطْنيّ: أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال: عليكم كلكم كبش؛ قالوا: أو على كل واحد منا كبش؛ قال: إنكم لَمُعَزّزٌ بكم، عليكم كلكم كبش.
قال اللغويون: لَمُعَزَّزٌ بكم أي لمشدّد عليكم.
ورُوي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعًا قال: عليهم كبش يتخارجونه بينهم.
ودليلنا قول الله سبحانه: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} وهذا خطاب لكل قاتل.
وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسًا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعًا منا ومنهم؛ فثبت ما قلناه.
الثالثة والعشرون قال أبو حنيفة: إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم مُحِلَون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحلّ والحرم؛ فإن ذلك لا يختلف.
وقال مالك: على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرمًا بدخوله الحرم، كما يكون محرمًا بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين.
وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدَّبُوسيّ قال: السِّرّ فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه.
وإذا قتل المحِلّون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرّمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة؛ فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة.
قال ابن العربي: وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا.
الرابعة والعشرون قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يُفعل به ما يُفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويُرسل من الحِلّ إلى مكة، ويُنحرْ ويُتصدّق به فيها؛ لقوله: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدْي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا.
وقال الشافعي: لا يحتاج الهدي إلى الحِلّ بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يُبتاع في الحرم ويهدى فيه.
الخامسة والعشرون قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي.
قال ابن وهب قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوّم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مُدّا، أو يصوم مكان كل مدّ يومًا.
وقال ابن القاسم عنه: إن قوّم الصيد دراهم ثم قوّمها طعامًا أجزأه؛ والصواب الأوّل.
وقال عبد الله بن عبد الحكم مثله؛ قال عنه: وهو في هذه الثلاثة بالخيار؛ أيّ ذلك فعل أجزأه موسرًا كان أو معسرًا.
وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء؛ لأن «أو» للتخيير.
قال مالك: كل شيء في كتاب الله في الكفّارات كذا أو كذا فصاحبه مخيَّر في ذلك، أيّ ذلك أحب أن يفعل فعل.
ورُوِي عن ابن عباس أنه قال: إذا قتل المحرم ظبيًا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل إيَّلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا، فإن لم يجد صام عشرين يومًا؛ وإن قتل نعامة أو حمارًا فعليه بَدَنة، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينًا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يومًا.
والطعام مدّ مدّ لشبعهم.
وقاله إبراهيم النَّخَعيّ وحماد بن سلمة، قالوا: والمعنى {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ} إن لم يجد الهدْي.
وحكى الطبريّ عن ابن عباس أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدّق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قُوّم جزاؤه بدراهم، ثم قوّمت الدراهم حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا؛ وقال: إنما أُريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعامًا، فإنه يجد جزاءه.
وأسنده أيضًا عن السديّ.
ويُعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره.
السادسة والعشرون اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلَف؛ فقال قوم: يوم الإتلاف.
وقال آخرون: يوم القضاء.
وقال آخرون: يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم.
قال ابن العربي: واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف؛ والدليل على ذلك أن الوجود كان حقًا للمتلَف عليه، فإذا أعدمه المتلِفُ لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم.
السابعة والعشرون أما الهدْيُ فلا خلاف أنه لابد له من مكة؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة}.
وأما الإطعام فاختلف فيه قولُ مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة؛ وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي.
وقال عطاء: ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء؛ وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه.
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام.
وقال حمّاد وأبو حنيفة: يُكفِّر بموضع الإصابة مطلقًا.
وقال الطَّبَريّ: يُكفِّر حيث شاء مطلقًا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه.
وأما من قال يصوم حيث شاء؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها.
وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره.
وأما من قال إنه يكون بكل موضع؛ فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع.
والله أعلم.
الثامنة والعشرون قوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} العدل والعِدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المِثل؛ قاله الكسائيّ.
وقال الفرّاء: عِدْل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكِسائيّ، تقول: عندي عِدْل دراهمك من الدارهم، وعندي عَدْل دراهمك من الثياب؛ والصحيح عن الكسائيّ أنهما لغتان، وهو قول البصريين.
ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد.
قال مالك: يصوم عن كل مُدّ يومًا، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة؛ وبه قال الشافعيّ.
وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؛ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده.
وهذا قول حسن احتاط فيه؛ لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا النظر يكثر الإطعام.
ومن أهل العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين؛ قالوا: لأنها أعلى الكفّارات.
واختاره ابن العربيّ.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصوم عن كل مدّين يومًا اعتبارا بفدية الأذى.
التاسعة والعشرون قوله تعالى: {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
وقال: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} [النحل: 112].
وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة.
ومنه الحديث: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا» الحديث والوبال سوء العاقبة.
والمرعى الوبيل هو الذي يُتأذّى به بعد أكله.
وطعام وبِيل إذا كان ثقيلًا؛ ومنه قوله:
عقِيلةُ شيخ كالوَبِيلِ يَلَنْدَدِ ** وعبر بأمره عن جميع حاله.

الموفية ثلاثين قوله تعالى: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} يعني في جاهليتكم من قتلكم الصيد؛ قاله عطاء بن أبي رَبَاح وجماعة معه.
وقيل: قبل نزول الكفّارة.
{وَمَنْ عَادَ} يعني للمنهى {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} أي بالكفّارة.
وقيل: المعنى {فينتقِم الله مِنه} يعني في الآخرة إن كان مستحلًا؛ ويكفر في ظاهر الحكم.
وقال شُرَيْح وسعيد بن جُبَير: يحكم عليه في أوّل مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك؛ أي ذنبك أعظم من أن يُكفَّر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفّارة لها عند أكثر أهل العلم لعظم إثمها.
والمتورّعون يتقون النقمة بالتكفير.
وقد رُوِي عن ابن عباس: يملأ ظهره سوطًا حتى يموت.
وروي عن زيد بن أبي المُعَلَّى: أن رجلًا أصاب صيدًا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارًا من السماء فأحرقته؛ وهذه عبرة للأُمّة وكفٌّ للمعتدين عن المعصية.
قوله سبحانه: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} {عَزِيزٌ} أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده.
{ذُو انْتِقَام} ممن عصاه إن شاء. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ}.
شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب، والتصريح بالنهي في قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مع كونه معلومًا لاسيما من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف، وحُرُم جمع حَرام، وهو المُحرم وإن كان في الحِل، وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالًا، كرُدُح جمع رَادح، والجملة حال من فاعل لا تقتلوا، أي لا تقتلوه وأنتم محرمون {وَمَن قَتَلَهُ} أي الصيد المعهود، وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة {مّنكُمْ} متعلق بمحذوف وقع حالًا من فاعل قتله أي كائنًا منكم.