فصل: ذكر أقوال السلف في هذا المقام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد روى هُشَيْم: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عما يقتل المحرم، فقال: «الحية، والعقرب، والفُوَيْسِقَة، ويرمي الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي».
رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والترمذي عن أحمد بن منيع، كلاهما عن هشيم. وابن ماجه، عن أبي كريم عن محمد بن فضيل، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن أيوب قال: نبئت عن طاوس قال: لا يحكم على من أصاب صيدًا خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمدًا.
وهذا مذهب غريب عن طاوس، وهو متمسك بظاهر الآية.
وقال مجاهد بن جبير: المراد بالمتعمد هنا القاصد إلى قتل الصيد، الناسي لإحرامه. فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه، فذاك أمره أعظم من أن يكفر، وقد بطل إحرامه.
رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما، عنه. وهو قول غريب أيضًا. والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. قال الزهري: دل الكتاب على العامد، وجرت السنة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم.
وقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها: {فجزاؤه مثل ما قتل من النعم}.
وفي قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك، والشافعي، وأحمد، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافًا لأبي حنيفة، رحمه الله، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي، قال: وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه، وإن شاء اشترى به هديًا. والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة، وفي بقرة الوحش ببقرة، وفي الغزال بعنز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب «الأحكام»، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه، يحمل إلى مكة. رواه البيهقي. وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل، عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل: هل يجوز أن يكون أحد الحكمين؟ على قولين:
أحدهما: لا؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه، وهذا مذهب مالك.
والثاني: نعم؛ لعموم الآية. وهو مذهب الشافعي، وأحمد.
واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا جعفر- هو ابن بُرْقَان- عن ميمون بن مِهْران؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال: قتلت صيدًا وأنا محرم، فما ترى عليَّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنه، لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيما قال؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.
وهذا إسناد جيد، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق، ومثله يحتمل هاهنا. فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم، فقد قال ابن جرير:
حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح، عن المسعودي، عن عبد الملك بن عمير، عن قَبِيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي- أو: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا، قال: فَعَظَّمْنا عليه، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، قال: فقص عليه القصة قال: وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة- يعني عبد الرحمن بن عوف- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال: ثم أقبل على الرجل فقال: أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه، وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال: فقمنا من عنده، فقلت لصاحبي: أيها الرجل، عَظّم شعائر الله، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه: اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذاك. قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: فبلغ عمر مقالتي، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة. قال: فعلا صاحبي ضربًا بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم؟ قال: ثم أقبل عليَّ فقلت: يا أمير المؤمنين، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني، قال: يا قبيصة بن جابر، إني أراك شابّ السن، فسيح الصدر، بيّن اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة، فإياك وعثرات الشباب.
وقد روى هُشَيْم هذه القصة، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة، بنحوه. ورواها أيضًا عن حُصَيْن، عن الشعبي، عن قبيصة، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عُمَر: بن بكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن سِيرين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال: أصبت ظَبْيًا وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا، فحكما عليّ بتَيْس أعفر.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن مُخارق، عن طارق قال: أوطأ أربد ظبيًا فقتلته وهو محرم فأتى عمر؛ ليحكم عليه، فقال له عمر: احكم معي، فحكما فيه جَدْيًا، قد جمع الماء والشجر. ثم قال عمر: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين، كما قاله الشافعي وأحمد، رحمهما الله.
واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين، فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه، وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا؛ لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي: واصلا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة.
وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} أي: إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحد قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد رحمهم الله، لظاهر الآية «أو» فإنها للتخيير. والقول الآخر: أنها على الترتيب.
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك، وأبي حنيفة وأصحابه، وحماد، وإبراهيم. وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا، ثم يشتري به طعام ويتصدق به، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي، ومالك، وفقهاء الحجاز، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن، وهو قول مجاهد.
وقال أحمد: مُدّ من حنطة، أو مدان من غيره. فإن لم يجد، أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يومًا.
وقال ابن جرير: وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا. كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة، أو يصوم ثلاثة أيام، والفَرَقُ ثلاثة آصع.
واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: محله الحرم، وهو قول عطاء. وقال مالك: يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم، وإن شاء أطعم في غيره.

.ذكر أقوال السلف في هذا المقام:

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقْسَم، عن ابن عباس في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قال: إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد نظر كم ثمنه، ثم قُوّم ثمنه طعامًا، فصام مكان كل نصف صاع يومًا، قال: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قال: إنما أريد بالطعام الصيام، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه.
ورواه ابن جرير، من طريق جرير.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل إبِلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، وزاد: والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم.
وقال جابر الجُعْفي، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قالوا: إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابن جرير.
وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب.
وقال عطاء، وعكرمة، ومجاهد- في رواية الضحاك- وإبراهيم النَّخَعِي: هي على الخيار. وهو رواية الليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. واختار ذلك ابن جرير، رحمه الله تعالى.
وقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} أي: في زمان الجاهلية، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله، ولم يرتكب المعصية.
ثم قال: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}.
قال ابن جُرَيْج، قلت لعطاء: ما {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} قال: عما كان في الجاهلية. قال: قلت: وما {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}؟ قال: ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة قال: قلت: فهل في العود حَدُّ تعلمه؟ قال: لا. قال: قلت: فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله، عز وجل، ولكن يفتدي. رواه ابن جرير.
وقيل معناه: فينتقم الله منه بالكفارة. قاله سعيد بن جبير، وعطاء.
ثم الجمهور من السلف والخلف، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية وإن تكرر ما تكرر، سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: من قتل شيئًا من الصيد خطأ، وهو محرم، يحكم عليه فيه كلما قتله، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة، فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله، عز وجل.